- عز الدينرائع فوق العادة
- الجنس : عدد المساهمات : 670
تاريخ التسجيل : 01/03/2011
العمر : 49
العمل/الترفيه : بحري قديم
المزاج : يا من لجرح كلما سكنته ** لكأ الحشى بمواجع ومآسي // لو انه في الرأس كنت ضمدته ** لكنه في القلب لا في الرأسِ
منزلة الاعتصام-ابن القيّم
الجمعة 29 يوليو 2011, 6:59 am
منزلة الاعتصام
ينزل القلب منزل الاعتصام.
وهو نوعان: اعتصام بالله واعتصام بحبل الله قال الله تعالى: 3 :103 {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقال: 22 :78 {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
و(الاعتصام) افتعال من العصمة وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من المحذور والمخوف فالعصمة: الحمية والاعتصام: الاحتماء ومنه سميت القلاع: العواصم لمنعها وحمايتها.
ومدار السعادة الدنيوية والأخروية: على الاعتصام بالله والاعتصام بحبله ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين.
فأما الاعتصام بحبله: فإنه يعصم من الضلالة والاعتصام به: يعصم من الهلكة فإن السائر الى الله كالسائر على طريق نحو مقصده فهو محتاج إلى هداية الطريق والسلامة فيها فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة وأن يهديه إلى الطريق والعدة والقوة والسلاح التي بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها.
فالاعتصام بحبل الله: يوجب له الهداية واتباع الدليل والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح والمادة التي يستلئم بها في طريقه ولهذا اختلفت عبارات السلف في الاعتصام بحبل الله بعد إشارتهم كلهم إلى هذا المعنى.
فقال ابن عباس: "تمسكوا بدين الله".
وقال ابن مسعود: "هو الجماعة" وقال: "عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة".
وقال مجاهد وعطاء: "بعهد الله" وقال قتادة والسدي وكثير من أهل التفسير: "هو القرآن".
قال ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه" وقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن: "هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تختلف به الألسن ولا يخلق على كثرة الرد ولا يشبع منه العلماء".
وقال مقاتل: "بأمر الله وطاعته ولا تفرقوا كما تفرقت اليهود والنصارى".
وفي الموطأ من حديث مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويسخط لكم: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال" رواه مسلم في الصحيح.
قال صاحب المنازل:
"الاعتصام بحبل الله: هو المحافظة على طاعته مراقبا لأمره".
ويريد بمراقبة الأمر: القيام بالطاعة لأجل أن الله أمر بها وأحبها لا لمجرد العادة أو لعلة باعثة سوى امتثال الأمر كما قال طلق بن حبيب رضي الله عنه في التقوى: "هي العمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله".
وهذا هو الإيمان والاحتساب المشار إليه في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كقوله من صام رمضان إيمانا واحتسابا ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له فالصيام والقيام: هو الطاعة و (الإيمان) مراقبة الأمر وإخلاص الباعث: هو أن يكون الإيمان الآمر لا شيء سواه و الاحتساب رجاء ثواب الله.
فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل والله أعلم.
فصل
وأما الاعتصام به: فهو التوكل عليه والامتناع به والاحتماء به وسؤاله أن يحمي العبد ويمنعه ويعصمه ويدفع عنه فإن ثمرة الاعتصام به: هو الدفع عن العبد والله يدافع عن الذين آمنوا فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب يفضي به إلى العطب ويحميه منه فيدفع عنه الشبهات والشهوات وكيد عدوه الظاهر والباطن وشر نفسه ويدفع عنه موجب أسباب الشر بعد انعقادها بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه فتفقد في حقه أسباب العطب فيدفع عنه موجباتها ومسبباتها ويدفع عنه قدره بقدره وإرادته بإرادته ويعيذه به منه.
فصل
وأما صاحب المنازل فقال:
"الاعتصام بالله الترقي عن كل موهوم".
(الموهوم) عنده ما سوى الله تعالى و (الترقي عنه) الصعود من شهود
نفعه وضره وعطائه ومنعه وتأثيره إلى الله تعالى وهذه إشارة إلى الفناء ومراده: الصعود عن شهود ما سوى الله إلى الله والكمال في ذلك: الصعود عن إرادة ما سوى الله إلى إرادته.
والاتحادي يفسره بالصعود عن وجود ما سواه إلى وجوده بحيث لا يرى لغيره وجودا ألبتة ويرى وجود كل موجود هو وجوده فلا وجود لغيره إلا في الوهم الكاذب عنده.
قال: "وهو على ثلاث درجات: اعتصام العامة بالخبر استسلاما وإذعانا بتصديق الوعد والوعيد وتعظيم الأمر والنهي وتأسيس المعاملة على اليقين والانصاف".
يعني أن العامة اعتصموا بالخبر الوارد عن الله استسلاما من غير منازعة بل إيمانا واستسلاما وانقادوا إلى تعظيم الأمر والنهي والإذعان لهما والتصديق بالوعد والوعيد وأسسوا معاملتهم على اليقين لا على الشك والتردد وسلوك طريقة الاحتياط كما قال القائل:
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما
هذه طريق أهل الريب والشك يقومون بالأمر والنهي احتياطا وهذه الطريق لا تنجي من عذاب الله ولا تحصل لصاحبها السعادة ولا توصله إلى المأمن.
وأما الإنصاف الذي أسسوا معاملتهم عليه: فهو الإنصاف في معاملتهم لله ولخلقه.
فأما الإنصاف في معاملة الله: فأن يعطى العبودية حقها وأن لا ينازع ربه صفات إلهيته التي لا تليق بالعبد ولا تنبغي له: من العظمة والكبرياء والجبروت.
ومن إنصافه لربه: أن لا يشكر سواه على نعمه وينساه ولا يستعين بها
على معاصيه ولا يحمد على رزقه غيره ولا يعبد سواه كما في الأثر الإلهي "إني والجن والإنس في نبإ عظيم: أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي" وفي أثر آخر: "ابن آدم: ما أنصفتني خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد أتحبب إليك بالنعم وأنا عنك غني وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح" وفي أثر آخر: "يا ابن آدم ما من يوم جديد إلا يأتيك من عندي رزق جديد وتأتي عنك الملائكة بعمل قبيح تأكل رزقي وتعصيني وتدعوني فأستجيب لك وتسألني فأعطيك وأنا أدعوك إلى جنتي فتأبى ذلك وما هذا من الإنصاف".
وأما الإنصاف في حق العبيد: فأن يعاملهم مثل ما يحب أن يعاملوه به.
ولعمر الله هذا الذي ذكر أنه اعتصام العامة: هو اعتصام خاصة الخاصة في الحقيقة ولكن الشيخ ممن رفع له علم الفناء فشمر إليه فلا تأخذه فيه لومة لائم ولا يرى مقاما أجل منه.
فصل
قال: "واعتصام الخاصة: بالانقطاع وهو صون الإرادة قبضا وإسبال الخلق عن الخلق بسطا ورفض العلائق عزما وهو التمسك بالعروة الوثقى".
يريد انقطاع النفس عن أغراضها من هذه الوجوه الثلاثة فيصون إرادته ويقبضها عما سوى الله سبحانه وهذا شبيه بحال أبي يزيد رحمه الله فيما أخبر به عن نفسه لما قيل له: ما تريد فقال: أريد أن لا أريد.
الثاني: إسبال الخلق على الخلق بسطا وهذا حقيقة التصوف فإنه كما
قال أبو بكر الكتانى: التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف.
فإن حسن الخلق وتزكية النفس بمكارم الأخلاق: يدل على سعة قلب صاحبه وكرم نفسه وسجيته وفي هذا الوصف: يكف الأذى ويحمل الأذى ويوجد الراحة ويدير خده الأيسر لمن لطم الأيمن ويعطي رداءه لمن سلبه قميصه ويمشى ميلين مع من سخره ميلا وهذا علامة انقطاعه عن حظوظ نفسه وأغراضها.
وأما رفض العلائق عزما: فهو العزم التام على رفض العلائق وتركها في ظاهره وباطنه.
والأصل هو قطع علائق الباطن فمتى قطعها لم تضره علائق الظاهر فمتى كان المال في يدك وليس في قلبك لم يضرك ولو كثر ومتى كان في قلبك ضرك ولو لم يكن في يدك منه شيء.
قيل للإمام أحمد: الرجل زاهدا ومعه ألف دينار؟ قال: "نعم على شريطة ألا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت ولهذا كان الصحابة أزهد الأمة مع ما بأيديهم من الأموال".
وقيل لسفيان الثوري: أيكون ذو المال زاهدا قال: "نعم إن كان إذا زيد في ماله شكر وإن نقص شكر وصبر".
وإنما يحمد قطع العلائق الظاهرة في موضعين: حيث يخاف منها ضررا في دينه أو حيث لا يكون فيها مصلحة راجحة والكمال من ذلك: قطع العلائق التي تصير كلاليب على الصراط تمنعه من العبور وهي كلاليب الشهوات والشبهات ولا يضره ما تعلق به بعدها.
فصل
قال: "واعتصام خاصة الخاصة: بالاتصال وهو شهود الحق تفريدا بعد الاستحذاء له تعظيما والاشتغال به قربا".
لما كان ذلك الانقطاع موصلا إلى هذا الاتصال: كان ذلك للمتوسطين وهذا عنده لأهل الوصول.
ويعني بشهود الحق تفريدا: أن يشهد الحق سبحانه وحده منفردا ولا شيء معه وذلك لفناء الشاهد في الشهود والحوالة في ذلك عند القوم: على الكشف.
وقد تقدم أن هذا ليس بكمال وأن الكمال: أن يفنى بمراده عن مراد نفسه وأما فناؤه بشهوده عن شهود ما سواه: فدون هذا الفناء في الرتبة كما تقدم.
وأما قوله: "بعد الاستحذاء له تعظيما" فالشيخ لكثرة لهجه بالاستعارات عبر عن معنى لطيف عظيم بلفظة الاستحذاء التي هي استفعال من المحاذاة وهي المقابلة التي لا يبقى فيها جزء من المحاذي خارجا عما حاذاه بل قد واجهه وقابله بكليته وجميع أجزائه ومراده بذلك: القرب وارتفاع الوسائط المانعة
منه ولا ريب أن العبد يقرب من ربه والرب يقرب من عبده فأما قرب العبد: فكقوله تعالى: 96 :19 {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وقوله في الأثر الإلهي: "من تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا" وكقوله: "وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي" وفي الحديث الصحيح: "أقرب ما يكون الرب من عبده: في جوف الليل الأخير" وفي الحديث أيضا: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" وفي الحديث الصحيح لما ارتفعت أصواتهم بالتكبير مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فقال: "يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".
فعبر الشيخ رحمه الله عن طلب القرب منه ورفض الوسائط الحائلة بينه وبين القرب المطلوب الذي لا تقر عيون عابديه وأوليائه إلا به: بالاستحذاء وحقيقته: موافاة العبد إلى حضرته وقدامه وبين يديه عكس حال من نبذه وراءه ظهريا وأعرض عنه ونأى بجانبه بمنزلة من ولى المطاع ظهره ومال بشقه.
عنه وهذا الأمر لا يدرك معناه إلا بوجوده وذوقه وأحسن ما يعبر عنه: بالعبارة النبوية المحمدية وأقرب عبارات القوم: أنه التقريب برفع الوسائط التي بارتفاعها يحصل للعبد حقيقة التعظيم فلذلك قال: "الاستحذاء له تعظيما".
ومن أراد فهم هذا كما ينبغي فعليه بفهم اسمه تعالى (الباطن) وفهم
اسمه (القريب) مع امتلاء القلب بحبه ولهج اللسان بذكره ومن ههنا يؤخذ العبد إلى الفناء الذي كان مشمرا إليه عاملا عليه.
فإن كان مشمرا إلى الفناء المتوسط وهو الفناء عن شهود السوى لم يبق في قلبه شهود لغيره ألبتة بل تضمحل الرسوم وتفنى الإشارات ويفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل وفى هذا المقام يجيب داعي الفناء طوعا ورغبة لا كرها لأن هذا المقام امتزج فيه الحب بالتعظيم مع القرب وهو منتهى سفر الطالبين لمقام الفناء.
وإن كان العبد مشمرا للفناء العالي وهو الفناء عن إرادة السوى: لم يبق في قلبه مراد يزاحم مراده الديني الشرعي النبوي القرآني بل يتحد المرادان فيصير عين مراد الرب هو مراد العبد وهذا حقيقة المحبة الخالصة وفيها يكون الاتحاد الصحيح وهو الاتحاد في المراد لا في المريد ولا في الإرادة.
فتدبر هذا الفرقان في هذا الموضع الذي طالما زلت فيه أقدام السالكين وضلت فيه أفهام الواجدين.
وفي هذا المقام حقيقة يفنى من لم يكن إرادة وإيثارا ومحبة وتعظيما وخوفا ورجاء وتوكلا ويبقى من لم يزل وفيه ترتفع الوسائط بين الرب والعبد حقيقة ويحصل له الاستحذاء المذكور مقرونا بغاية الحب وغاية التعظيم.
وفي هذا المقام: يجيب داعي الفناء في المحبة طوعا واختيارا لا كرها بل ينجذب إليه انجذاب قلب المحب وروحه الذي قد ملأت المحبة قلبه بحيث لم يبق فيه جزء فارغ منها إلى محبوبه الذي هو أكمل محبوب وأجله وأحقه بالحب.
وهذا الفناء أوجبه الحب الكامل الممتزج بالتعظيم والإجلال والقرب ومحو ما سوى مراد المحبوب من القلب بحيث لم يبق في القلب إلا المحبوب ومراده وهذا حقيقة الاعتصام به وبحبله والله المستعان.
وأما قوله: "والاشتغال به قربا" أي يشغله قرب الحق عن كل ما سواه وهذا حقيقة القرب ألا ترى أن القريب من السلطان جدا المقبل عليه المكلم له: لا يشتغل بشيء سواه ألبتة؟ فعلى قدر القرب من الله يكون اشتغال العبد به والله أعلم.
ينزل القلب منزل الاعتصام.
وهو نوعان: اعتصام بالله واعتصام بحبل الله قال الله تعالى: 3 :103 {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} وقال: 22 :78 {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
و(الاعتصام) افتعال من العصمة وهو التمسك بما يعصمك ويمنعك من المحذور والمخوف فالعصمة: الحمية والاعتصام: الاحتماء ومنه سميت القلاع: العواصم لمنعها وحمايتها.
ومدار السعادة الدنيوية والأخروية: على الاعتصام بالله والاعتصام بحبله ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين.
فأما الاعتصام بحبله: فإنه يعصم من الضلالة والاعتصام به: يعصم من الهلكة فإن السائر الى الله كالسائر على طريق نحو مقصده فهو محتاج إلى هداية الطريق والسلامة فيها فلا يصل إلى مقصده إلا بعد حصول هذين الأمرين له فالدليل كفيل بعصمته من الضلالة وأن يهديه إلى الطريق والعدة والقوة والسلاح التي بها تحصل له السلامة من قطاع الطريق وآفاتها.
فالاعتصام بحبل الله: يوجب له الهداية واتباع الدليل والاعتصام بالله يوجب له القوة والعدة والسلاح والمادة التي يستلئم بها في طريقه ولهذا اختلفت عبارات السلف في الاعتصام بحبل الله بعد إشارتهم كلهم إلى هذا المعنى.
فقال ابن عباس: "تمسكوا بدين الله".
وقال ابن مسعود: "هو الجماعة" وقال: "عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة".
وقال مجاهد وعطاء: "بعهد الله" وقال قتادة والسدي وكثير من أهل التفسير: "هو القرآن".
قال ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه" وقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن: "هو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تختلف به الألسن ولا يخلق على كثرة الرد ولا يشبع منه العلماء".
وقال مقاتل: "بأمر الله وطاعته ولا تفرقوا كما تفرقت اليهود والنصارى".
وفي الموطأ من حديث مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويسخط لكم: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال" رواه مسلم في الصحيح.
قال صاحب المنازل:
"الاعتصام بحبل الله: هو المحافظة على طاعته مراقبا لأمره".
ويريد بمراقبة الأمر: القيام بالطاعة لأجل أن الله أمر بها وأحبها لا لمجرد العادة أو لعلة باعثة سوى امتثال الأمر كما قال طلق بن حبيب رضي الله عنه في التقوى: "هي العمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله".
وهذا هو الإيمان والاحتساب المشار إليه في كلام النبي صلى الله عليه وسلم كقوله من صام رمضان إيمانا واحتسابا ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له فالصيام والقيام: هو الطاعة و (الإيمان) مراقبة الأمر وإخلاص الباعث: هو أن يكون الإيمان الآمر لا شيء سواه و الاحتساب رجاء ثواب الله.
فالاعتصام بحبل الله يحمي من البدعة وآفات العمل والله أعلم.
فصل
وأما الاعتصام به: فهو التوكل عليه والامتناع به والاحتماء به وسؤاله أن يحمي العبد ويمنعه ويعصمه ويدفع عنه فإن ثمرة الاعتصام به: هو الدفع عن العبد والله يدافع عن الذين آمنوا فيدفع عن عبده المؤمن إذا اعتصم به كل سبب يفضي به إلى العطب ويحميه منه فيدفع عنه الشبهات والشهوات وكيد عدوه الظاهر والباطن وشر نفسه ويدفع عنه موجب أسباب الشر بعد انعقادها بحسب قوة الاعتصام به وتمكنه فتفقد في حقه أسباب العطب فيدفع عنه موجباتها ومسبباتها ويدفع عنه قدره بقدره وإرادته بإرادته ويعيذه به منه.
فصل
وأما صاحب المنازل فقال:
"الاعتصام بالله الترقي عن كل موهوم".
(الموهوم) عنده ما سوى الله تعالى و (الترقي عنه) الصعود من شهود
نفعه وضره وعطائه ومنعه وتأثيره إلى الله تعالى وهذه إشارة إلى الفناء ومراده: الصعود عن شهود ما سوى الله إلى الله والكمال في ذلك: الصعود عن إرادة ما سوى الله إلى إرادته.
والاتحادي يفسره بالصعود عن وجود ما سواه إلى وجوده بحيث لا يرى لغيره وجودا ألبتة ويرى وجود كل موجود هو وجوده فلا وجود لغيره إلا في الوهم الكاذب عنده.
قال: "وهو على ثلاث درجات: اعتصام العامة بالخبر استسلاما وإذعانا بتصديق الوعد والوعيد وتعظيم الأمر والنهي وتأسيس المعاملة على اليقين والانصاف".
يعني أن العامة اعتصموا بالخبر الوارد عن الله استسلاما من غير منازعة بل إيمانا واستسلاما وانقادوا إلى تعظيم الأمر والنهي والإذعان لهما والتصديق بالوعد والوعيد وأسسوا معاملتهم على اليقين لا على الشك والتردد وسلوك طريقة الاحتياط كما قال القائل:
زعم المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت: إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما
هذه طريق أهل الريب والشك يقومون بالأمر والنهي احتياطا وهذه الطريق لا تنجي من عذاب الله ولا تحصل لصاحبها السعادة ولا توصله إلى المأمن.
وأما الإنصاف الذي أسسوا معاملتهم عليه: فهو الإنصاف في معاملتهم لله ولخلقه.
فأما الإنصاف في معاملة الله: فأن يعطى العبودية حقها وأن لا ينازع ربه صفات إلهيته التي لا تليق بالعبد ولا تنبغي له: من العظمة والكبرياء والجبروت.
ومن إنصافه لربه: أن لا يشكر سواه على نعمه وينساه ولا يستعين بها
على معاصيه ولا يحمد على رزقه غيره ولا يعبد سواه كما في الأثر الإلهي "إني والجن والإنس في نبإ عظيم: أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر سواي" وفي أثر آخر: "ابن آدم: ما أنصفتني خيري إليك نازل وشرك إلي صاعد أتحبب إليك بالنعم وأنا عنك غني وتتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي ولا يزال الملك الكريم يعرج إلي منك بعمل قبيح" وفي أثر آخر: "يا ابن آدم ما من يوم جديد إلا يأتيك من عندي رزق جديد وتأتي عنك الملائكة بعمل قبيح تأكل رزقي وتعصيني وتدعوني فأستجيب لك وتسألني فأعطيك وأنا أدعوك إلى جنتي فتأبى ذلك وما هذا من الإنصاف".
وأما الإنصاف في حق العبيد: فأن يعاملهم مثل ما يحب أن يعاملوه به.
ولعمر الله هذا الذي ذكر أنه اعتصام العامة: هو اعتصام خاصة الخاصة في الحقيقة ولكن الشيخ ممن رفع له علم الفناء فشمر إليه فلا تأخذه فيه لومة لائم ولا يرى مقاما أجل منه.
فصل
قال: "واعتصام الخاصة: بالانقطاع وهو صون الإرادة قبضا وإسبال الخلق عن الخلق بسطا ورفض العلائق عزما وهو التمسك بالعروة الوثقى".
يريد انقطاع النفس عن أغراضها من هذه الوجوه الثلاثة فيصون إرادته ويقبضها عما سوى الله سبحانه وهذا شبيه بحال أبي يزيد رحمه الله فيما أخبر به عن نفسه لما قيل له: ما تريد فقال: أريد أن لا أريد.
الثاني: إسبال الخلق على الخلق بسطا وهذا حقيقة التصوف فإنه كما
قال أبو بكر الكتانى: التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف.
فإن حسن الخلق وتزكية النفس بمكارم الأخلاق: يدل على سعة قلب صاحبه وكرم نفسه وسجيته وفي هذا الوصف: يكف الأذى ويحمل الأذى ويوجد الراحة ويدير خده الأيسر لمن لطم الأيمن ويعطي رداءه لمن سلبه قميصه ويمشى ميلين مع من سخره ميلا وهذا علامة انقطاعه عن حظوظ نفسه وأغراضها.
وأما رفض العلائق عزما: فهو العزم التام على رفض العلائق وتركها في ظاهره وباطنه.
والأصل هو قطع علائق الباطن فمتى قطعها لم تضره علائق الظاهر فمتى كان المال في يدك وليس في قلبك لم يضرك ولو كثر ومتى كان في قلبك ضرك ولو لم يكن في يدك منه شيء.
قيل للإمام أحمد: الرجل زاهدا ومعه ألف دينار؟ قال: "نعم على شريطة ألا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت ولهذا كان الصحابة أزهد الأمة مع ما بأيديهم من الأموال".
وقيل لسفيان الثوري: أيكون ذو المال زاهدا قال: "نعم إن كان إذا زيد في ماله شكر وإن نقص شكر وصبر".
وإنما يحمد قطع العلائق الظاهرة في موضعين: حيث يخاف منها ضررا في دينه أو حيث لا يكون فيها مصلحة راجحة والكمال من ذلك: قطع العلائق التي تصير كلاليب على الصراط تمنعه من العبور وهي كلاليب الشهوات والشبهات ولا يضره ما تعلق به بعدها.
فصل
قال: "واعتصام خاصة الخاصة: بالاتصال وهو شهود الحق تفريدا بعد الاستحذاء له تعظيما والاشتغال به قربا".
لما كان ذلك الانقطاع موصلا إلى هذا الاتصال: كان ذلك للمتوسطين وهذا عنده لأهل الوصول.
ويعني بشهود الحق تفريدا: أن يشهد الحق سبحانه وحده منفردا ولا شيء معه وذلك لفناء الشاهد في الشهود والحوالة في ذلك عند القوم: على الكشف.
وقد تقدم أن هذا ليس بكمال وأن الكمال: أن يفنى بمراده عن مراد نفسه وأما فناؤه بشهوده عن شهود ما سواه: فدون هذا الفناء في الرتبة كما تقدم.
وأما قوله: "بعد الاستحذاء له تعظيما" فالشيخ لكثرة لهجه بالاستعارات عبر عن معنى لطيف عظيم بلفظة الاستحذاء التي هي استفعال من المحاذاة وهي المقابلة التي لا يبقى فيها جزء من المحاذي خارجا عما حاذاه بل قد واجهه وقابله بكليته وجميع أجزائه ومراده بذلك: القرب وارتفاع الوسائط المانعة
منه ولا ريب أن العبد يقرب من ربه والرب يقرب من عبده فأما قرب العبد: فكقوله تعالى: 96 :19 {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} وقوله في الأثر الإلهي: "من تقرب منى شبرا تقربت منه ذراعا" وكقوله: "وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي" وفي الحديث الصحيح: "أقرب ما يكون الرب من عبده: في جوف الليل الأخير" وفي الحديث أيضا: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" وفي الحديث الصحيح لما ارتفعت أصواتهم بالتكبير مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فقال: "يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته".
فعبر الشيخ رحمه الله عن طلب القرب منه ورفض الوسائط الحائلة بينه وبين القرب المطلوب الذي لا تقر عيون عابديه وأوليائه إلا به: بالاستحذاء وحقيقته: موافاة العبد إلى حضرته وقدامه وبين يديه عكس حال من نبذه وراءه ظهريا وأعرض عنه ونأى بجانبه بمنزلة من ولى المطاع ظهره ومال بشقه.
عنه وهذا الأمر لا يدرك معناه إلا بوجوده وذوقه وأحسن ما يعبر عنه: بالعبارة النبوية المحمدية وأقرب عبارات القوم: أنه التقريب برفع الوسائط التي بارتفاعها يحصل للعبد حقيقة التعظيم فلذلك قال: "الاستحذاء له تعظيما".
ومن أراد فهم هذا كما ينبغي فعليه بفهم اسمه تعالى (الباطن) وفهم
اسمه (القريب) مع امتلاء القلب بحبه ولهج اللسان بذكره ومن ههنا يؤخذ العبد إلى الفناء الذي كان مشمرا إليه عاملا عليه.
فإن كان مشمرا إلى الفناء المتوسط وهو الفناء عن شهود السوى لم يبق في قلبه شهود لغيره ألبتة بل تضمحل الرسوم وتفنى الإشارات ويفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل وفى هذا المقام يجيب داعي الفناء طوعا ورغبة لا كرها لأن هذا المقام امتزج فيه الحب بالتعظيم مع القرب وهو منتهى سفر الطالبين لمقام الفناء.
وإن كان العبد مشمرا للفناء العالي وهو الفناء عن إرادة السوى: لم يبق في قلبه مراد يزاحم مراده الديني الشرعي النبوي القرآني بل يتحد المرادان فيصير عين مراد الرب هو مراد العبد وهذا حقيقة المحبة الخالصة وفيها يكون الاتحاد الصحيح وهو الاتحاد في المراد لا في المريد ولا في الإرادة.
فتدبر هذا الفرقان في هذا الموضع الذي طالما زلت فيه أقدام السالكين وضلت فيه أفهام الواجدين.
وفي هذا المقام حقيقة يفنى من لم يكن إرادة وإيثارا ومحبة وتعظيما وخوفا ورجاء وتوكلا ويبقى من لم يزل وفيه ترتفع الوسائط بين الرب والعبد حقيقة ويحصل له الاستحذاء المذكور مقرونا بغاية الحب وغاية التعظيم.
وفي هذا المقام: يجيب داعي الفناء في المحبة طوعا واختيارا لا كرها بل ينجذب إليه انجذاب قلب المحب وروحه الذي قد ملأت المحبة قلبه بحيث لم يبق فيه جزء فارغ منها إلى محبوبه الذي هو أكمل محبوب وأجله وأحقه بالحب.
وهذا الفناء أوجبه الحب الكامل الممتزج بالتعظيم والإجلال والقرب ومحو ما سوى مراد المحبوب من القلب بحيث لم يبق في القلب إلا المحبوب ومراده وهذا حقيقة الاعتصام به وبحبله والله المستعان.
وأما قوله: "والاشتغال به قربا" أي يشغله قرب الحق عن كل ما سواه وهذا حقيقة القرب ألا ترى أن القريب من السلطان جدا المقبل عليه المكلم له: لا يشتغل بشيء سواه ألبتة؟ فعلى قدر القرب من الله يكون اشتغال العبد به والله أعلم.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى