- عز الدينرائع فوق العادة
- الجنس : عدد المساهمات : 670
تاريخ التسجيل : 01/03/2011
العمر : 49
العمل/الترفيه : بحري قديم
المزاج : يا من لجرح كلما سكنته ** لكأ الحشى بمواجع ومآسي // لو انه في الرأس كنت ضمدته ** لكنه في القلب لا في الرأسِ
منزلة (الورع).
الأحد 31 يوليو 2011, 7:08 am
منزلة الورع
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الورع
قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [ المؤمنون: 51 ] وقال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [ المدثر: 4 ] قال قتادة ومجاهد: نفسك فطهر من الذنب فكنى عن النفس بالثوب وهذا قول إبراهيم النخعي والضحاك والشعبي والزهري والمحققين من أهل التفسير قال ابن عباس: لا تلبسها على معصية ولا غدر ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:
وإنى بحمد الله لا ثوب غادر لبست ولا من غدرة أتقنع
والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء: طاهر الثياب وتقول للغادر والفاجر: دنس الثياب وقال أبي بن كعب: لا تلبسها على الغدر والظلم والإثم ولكن البسها وأنت بر طاهر
وقال الضحاك: عملك فأصلح قال السدي: يقال للرجل إذا كان صالحا:
إنه لطاهر الثياب وإذا كان فاجرا إنه لخبيث الثياب وقال سعيد بن جبير: وقلبك وبيتك فطهر وقال الحسن والقرظي: وخلقك فحسن
وقال ابن سيرين وابن زيد: أمر بتطهير الثياب من النجاسات التى لا تجوز الصلاة معها لأن المشركين كانوا لا يتطهرون ولا يطهرون ثيابهم وقال طاووس: وثيابك فقصر لأن تقصير الثياب طهرة لها
والقول الأول: أصح الأقوال ولا ريب أن تطهيرها من النجاسات وتقصيرها من جملة التطهير المأمور به إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق لأن نجاسة الظاهر تورث نجاسة الباطن ولذلك أمر القائم بين يدي الله عز وجل بإزالتها والبعد عنها والمقصود: أن الورع يطهر دنس القلب ونجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته وبين الثياب والقلوب مناسبة ظاهرة وباطنة ولذلك تدل ثياب المرء في المنام على قلبه وحاله ويؤثر كل منهما في الآخر ولهذا نهى عن لباس الحرير والذهب وجلود السباع لما تؤثر في القلب من الهيئة المنافية للعبودية والخشوع وتأثير القلب والنفس في الثياب أمر خفي يعرفه أهل البصائر من نظافتها ودنسها ورائحتها وبهجتها وكسفتها حتى إن ثوب البر ليعرف من ثوب الفاجر وليسا عليهما وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة فقال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" فهذا يعم الترك لما لا يعني: من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة فهذه الكلمة كافية شافية في الورع قال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة وترك ما لا يعنيك هو ترك الفضلات وفى الترمذي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس"
قال الشبلي: الورع أن يتورع عن كل ما سوى الله وقال إسحاق بن خلف: "الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة والزهد في الرياسة: أشد منه في الذهب والفضة لأنهما يبذلان في طلب الرياسة" وقال أبو سليمان الداراني: "الورع أول الزهد كما أن القناعة أول الرضى" وقال يحيى بن معاذ: "الورع الوقوف على حد العلم من غير تأويل" وقال: "الورع على وجهين ورع فى الظاهر وورع فى الباطن فورع الظاهر: أن لا يتحرك إلا لله وورع الباطن: هو أن لا يدخل قلبك سواه" وقال: "من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء" وقيل: "الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات" وقيل: "من دق في الدنيا ورعه أو نظره جل في القيامة خطره" وقال يونس بن عبيد: "الورع الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس في كل طرفة عين" وقال سفيان الثوري: "ما رأيت أسهل من الورع ما حاك في نفسك فاتركه" وقال سهل: "الحلال هو الذي لا يعصي الله فيه والصافي منه الذي لا ينسى الله فيه" وسأل الحسن غلاما فقال له: "ما ملاك الدين قال: الورع قال: فما آفتة قال: الطمع فعجب الحسن منه" وقال الحسن: "مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة" وقال أبو هريرة: "جلساء الله غدا أهل الورع والزهد"
وقال بعض السلف: "لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس" وقال بعض الصحابة: "كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام"
فصل
قال صاحب المنازل الورع: "توق مستقصى على حذر وتحرج على تعظيم"
يعني أن يتوقى الحرام والشبه وما يخاف أن يضره أقصى ما يمكنه من التوقي لأن التوقي والحذر متقاربان إلا أن التوقي فعل الجوارح و الحذر فعل القلب فقد يتوقى العبد الشيء لا على وجه الحذر والخوف ولكن لأمور أخرى: من إظهار نزاهة وعزة وتصوف أو اعتراض آخر كتوقي الذين لا يؤمنون بمعاد ولا جنة ولا نار ما يتوقونه من الفواحش والدناءة تصونا عنها ورغبة بنفوسهم عن مواقعتها وطلبا للمحمدة ونحو ذلك
وقوله: "أو تحرج على تعظيم" يعني أن الباعث على الورع عن المحارم والشبه إما حذر حلول الوعيد وإما تعظيم الرب جل جلاله وإجلالا له أن يتعرض لما نهى عنه فالورع عن المعصية: إما تخوف أو تعظيم واكتفى بذكر التعظيم عن ذكر الحب الباعث على ترك معصية المحبوب لأنه لا يكون إلا مع تعظيمه وإلا فلو خلا القلب من تعظيمه لم تستلزم محبته ترك مخالفته كمحبة الإنسان ولده وعبده وأمته فإذا قارنه التعظيم أوجب ترك المخالفة قال: "وهو آخر مقام الزهد للعامة وأول مقام الزهد للمريد" يعني أن هذا التوقي والتحرج بوصف الحذر والتعظيم: هو نهاية لزهد العامة وبداية لزهد المريد وإنما كان كذلك لأن الورع كما تقدم هو أول الزهد وركنه وزهد المريد: فوق زهد العامة ونهاية العامة: هى بداية المريد فنهاية مقام هذا هي بداية مقام هذا فإذا انتهى ورع العامة صار زهدا وهو أول ورع المريد قال: "وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: تجنب القبائح لصون النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان"
هذه ثلاث فوائد من فوائد تجنب القبائح إحداها: صون النفس وهو حفظها وحمايتها عما يشينها ويعيبها ويزري بها عند الله عز وجل وملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه فإن من كرمت عليه نفسه وكبرت عنده: صانها وحماها وزكاها وعلاها ووضعها في أعلى المحال وزاحم بها أهل العزائم والكمالات ومن هانت عليه نفسه وصغرت عنده أنقاها في الرذائل وأطلق شناقها وحل زمامها وأرخاه ودساها ولم يصنها عن قبيح فأقل ما في تجنب القبائح: صون النفس
وأما توفير الحسنات فمن وجهين
أحدهما: توفير زمانه على اكتساب الحسنات فإذا اشتغل بالقبائح نقصت عليه الحسنات التي كان مستعدا لتحصيلها
والثاني: توفير الحسنات المفعولة عن نقصانها بموازنة السيئات وحبوطها كما تقدم في منزلة التوبة: أن السيئات قد تحبط الحسنات وقد تستغرقها بالكلية أو تنقصها فلا بد أن تضعفها قطعا فتجنبها يوفر ديوان الحسنات وذلك بمنزلة من له مال حاصل فإذا استدان عليه فإما أن يستغرقه الدين أو يكثره أو ينقصه فهكذا الحسنات والسيئات سواء وأما صيانة الإيمان فلأن الإيمان عند جميع أهل السنة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وقد حكاه الشافعي وغيره عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم وإضعاف المعاصي للإيمان أمر معلوم بالذوق والوجود فإن العبد كما جاء في الحديث إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب واستغفر صقل قلبه وإن عاد فأذنب نكت فيه نكتة أخرى حتى تعلو قلبه وذلك الران الذي قال الله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [ المطففين: 14 ] فالقبائح تسود القلب وتطفىء نوره والإيمان هو نور فى القلب والقبائح تذهب به أو تقلله قطعا فالحسنات تزيد نور القلب والسيئات تطفىء نور القلب وقد
أخبر الله عز وجل أن كسب القلوب سبب للران الذي يعلوها وأخبر أنه أركس المنافقين بما كسبوا فقال: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [ النساء: 88 ] وأخبر أن نقض الميثاق الذي أخذه على عباده سبب لتقسية القلب فقال فيما نقضهم ميثقاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به [ المائده: 13 ] فجعل ذنب النقض موجبا لهذه الآثار: من تقسية القلب واللعنة وتحريف الكلم ونسيان العلم فالمعاصي للإيمان كالمرض والحمى للقوة سواء بسواء ولذلك قال السلف: المعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت
فإيمان صاحب القبائح كقوة المريض على حسب قوة مرضه وضعفه وهذه الأمور الثلاثة وهي صون النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان هي أرفع من باعث العامة على الورع لأن صاحبها أرفع همة لأنه عامل على تزكية نفسه وصونها وتأهيلها للوصول إلى ربها فهو يصونها عما يشينها عنده ويحجبها عنه ويصون حسناته عما يسقطها ويضعها لأنه يسير بها إلى ربه ويطلب بها رضاه ويصون إيمانه بربه: من حبه له وتوحيده ومعرفته به ومراقبته إياه عما يطفىء نوره ويذهب بهجته ويوهن قوته قال الشيخ وهذه الثلاث الصفات: هي في الدرجة الأولى من ورع المريدين
يعني أن للمريدين درجتين أخريين من الورع فوق هذه ثم ذكرهما فقال: الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به إبقاء على الصيانة والتقوى وصعودا عن الدناءة وتخلصاعن اقتحام الحدود
يقول: إن من صعد عن الدرجة الأولى إلى هذه الدرجة من الورع يترك كثيرا مما لا بأس به من المباح إبقاء على صيانته وخوفا عليها أن يتكدر
صفوها ويطفأ نورها فإن كثيرا من المباح يكدر صفو الصيانة ويذهب بهجتها ويطفىء نورها ويخلق حسنها وبهجتها وقال لي يوما شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة أو نحو هذا من الكلام فالعارف يترك كثيرا من المباح إبقاء على صيانته ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخا بين الحلال والحرام فإن بينهما برزخا كما تقدم فتركه لصاحب هذه الدرجة كالمتعين الذي لا بد منه لمنافاته لدرجته والفرق بين صاحب الدرجة الأولى وصاحب هذه: أن ذلك يسعى في تحصيل الصيانة وهذا يسعى في حفظ صفوها أن يتكدر ونورها أن يطفأ ويذهب وهو معنى قوله: إبقاء على الصيانة
وأما الصعود عن الدناءة: فهو الرفع عن طرقاتها وأفعالها
وأما التخلص عن اقتحام الحدود فالحدود: هي النهايات وهي مقاطع الحلال والحرام فحيث ينقطع وينتهي فذلك حده فمن اقتحمه وقع في المعصية وقد نهى الله تعالى عن تعدي حدوده وعن قربانها فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [ البقره وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [ البقره: 229 ] فإن الحدود يراد بها أواخر الحلال وحيث نهى عن القربان فالحدود هناك: أوائل الحرام يقول سبحانه: لا تتعدوا ما أبحت لكم ولا تقربوا ما حرمت عليكم فالورع يخلص العبد من قربان هذه وتعدي هذه وهو اقتحام الحدود قال: الدرجة الثالثة: التورع عن كل داعية تدعو إلى شتات الوقت والتعلق بالتفرق وعارض يعارض حال الجمع الفرق بين شتات الوقت والتعلق بالتفرق: كالفرق بين السبب والمسبب
والنفي والإثبات فإنه يتشتت وقته فلا يجد بدا من التعلق بما سوى مطلوبه الحق إذ لا تعطيل في النفس ولا في الإرادة فمن لم يكن الله مراده أراد ما سواه ومن لم يكن هو وحده معبوده عبد ما سواه ومن لم يكن عمله لله فلا بد أن يعمل لغيره وقد تقدم هذا فالمخلص يصونه الله بعبادته وحده وإرادة وجهه وخشيته وحده ورجائه وحده والطلب منه والذل منه والافتقار إليه وحده وإنما كان هذا أعلى من الدرجة الثانية: لأن أربابها اشتغلوا بحفظ الصيانة من الكدر وملاحظتها وذلك عند أهل الدرجة الثالثة: تفرق عن الحق واشتغال عن مراقبته بحال نفوسهم فأدب أهل هذه أدب حضور وأدب أولئك أدب غيبة وأما الورع عن كل حال يعارض حال الجمع فمعناه: أن يستغرق العبد شهود فنائه في التوحيد وجمعيته على الله تعالى فيه عن كل حال يعارض هذا الفناء والجمعية وهذا عند الشيخ لما كان هو الغاية التي ليس بعدها مطلب: جعل كل حال يعارضها ويقطع عنها ناقصا بالنسبة إليها فالرغبة عنه غير ورع صاحبها وقد عرفت ما فيه وأن فوق هذا مقام أرفع منه وأعلى وهو الورع عن كل حظ يزاحم مراده منك ولو كان الحظ فناءا وجميعة أو كائنا ما كان وبينا أن الفناء و الجمعية حظ العبد وأن حق الرب وراء ذلك وهو البقاء بمراده فرقا وجمعا به وله وعلى هذا فالورع الخاص: الورع عن كل حال يعارض حال القيام بالأمر والبقاء به فرقا وجمعا والله المستعان
فصل الخوف يثمر الورع والاستعانة وقصر الأمل وقوة الإيمان باللقاء
تثمر الزهد والمعرفة تثمر المحبة والخوف والرجاء والقناعة تثمر الرضاء والذكر يثمر حياة القلب والإيمان بالقدر يثمر التوكل ودوام تأمل الأسماء والصفات يثمر المعرفة والورع يثمر الزهد أيضا والتوبة تثمر المحبة أيضا ودوام الذكر يثمرها والرضا يثمر الشكر والعزيمة والصبر يثمران جميع الأحوال والمقامات والإخلاص والصدق كل منهما يثمر الآخر ويقتضيه والمعرفة تثمر الخلق والفكر يثمر العزيمة والمراقبة تثمر عمارة الوقت وحفظ الأيام والحياء والخشية والإنابة وإماتة النفس وإذلالها وكسرها: يوجب حياة القلب وعزه وجبره ومعرفة النفس ومقتها يوجب الحياء من الله عز وجل واستكثار ما منه واستقلال ما منك من الطاعات ومحو أثر الدعوى من القلب واللسان وصحة البصيرة تثمر اليقين وحسن التأمل لما ترى تسمع من الآيات المشهودة والمتلوة يثمر صحة البصيرة وملاك ذلك كله: أمران أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها وفهم ما يراد منه وما نزل لأجله وأخذ نصيبك وحظك من كل آية من آياته تنزلها على داء قلبك فهذه طريق مختصرة قريبة سهلة موصلة إلى الرفيق الأعلى آمنة لا يلحق سالكها خوف ولا عطب ولا جوع ولا عطش ولا فيها آفة من آفات سائر الطريق ألبتة وعليها من الله حارس وحافظ يكلأ السالكين فيها ويحميهم ويدفع عنهم ولا يعرف قدر هذه الطريق إلا من عرف طرق الناس وغوائلها وآفاتها وقطاعها والله المستعان
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الورع
قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [ المؤمنون: 51 ] وقال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [ المدثر: 4 ] قال قتادة ومجاهد: نفسك فطهر من الذنب فكنى عن النفس بالثوب وهذا قول إبراهيم النخعي والضحاك والشعبي والزهري والمحققين من أهل التفسير قال ابن عباس: لا تلبسها على معصية ولا غدر ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:
وإنى بحمد الله لا ثوب غادر لبست ولا من غدرة أتقنع
والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء: طاهر الثياب وتقول للغادر والفاجر: دنس الثياب وقال أبي بن كعب: لا تلبسها على الغدر والظلم والإثم ولكن البسها وأنت بر طاهر
وقال الضحاك: عملك فأصلح قال السدي: يقال للرجل إذا كان صالحا:
إنه لطاهر الثياب وإذا كان فاجرا إنه لخبيث الثياب وقال سعيد بن جبير: وقلبك وبيتك فطهر وقال الحسن والقرظي: وخلقك فحسن
وقال ابن سيرين وابن زيد: أمر بتطهير الثياب من النجاسات التى لا تجوز الصلاة معها لأن المشركين كانوا لا يتطهرون ولا يطهرون ثيابهم وقال طاووس: وثيابك فقصر لأن تقصير الثياب طهرة لها
والقول الأول: أصح الأقوال ولا ريب أن تطهيرها من النجاسات وتقصيرها من جملة التطهير المأمور به إذ به تمام إصلاح الأعمال والأخلاق لأن نجاسة الظاهر تورث نجاسة الباطن ولذلك أمر القائم بين يدي الله عز وجل بإزالتها والبعد عنها والمقصود: أن الورع يطهر دنس القلب ونجاسته كما يطهر الماء دنس الثوب ونجاسته وبين الثياب والقلوب مناسبة ظاهرة وباطنة ولذلك تدل ثياب المرء في المنام على قلبه وحاله ويؤثر كل منهما في الآخر ولهذا نهى عن لباس الحرير والذهب وجلود السباع لما تؤثر في القلب من الهيئة المنافية للعبودية والخشوع وتأثير القلب والنفس في الثياب أمر خفي يعرفه أهل البصائر من نظافتها ودنسها ورائحتها وبهجتها وكسفتها حتى إن ثوب البر ليعرف من ثوب الفاجر وليسا عليهما وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة فقال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" فهذا يعم الترك لما لا يعني: من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة فهذه الكلمة كافية شافية في الورع قال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة وترك ما لا يعنيك هو ترك الفضلات وفى الترمذي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس"
قال الشبلي: الورع أن يتورع عن كل ما سوى الله وقال إسحاق بن خلف: "الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة والزهد في الرياسة: أشد منه في الذهب والفضة لأنهما يبذلان في طلب الرياسة" وقال أبو سليمان الداراني: "الورع أول الزهد كما أن القناعة أول الرضى" وقال يحيى بن معاذ: "الورع الوقوف على حد العلم من غير تأويل" وقال: "الورع على وجهين ورع فى الظاهر وورع فى الباطن فورع الظاهر: أن لا يتحرك إلا لله وورع الباطن: هو أن لا يدخل قلبك سواه" وقال: "من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى الجليل من العطاء" وقيل: "الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات" وقيل: "من دق في الدنيا ورعه أو نظره جل في القيامة خطره" وقال يونس بن عبيد: "الورع الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس في كل طرفة عين" وقال سفيان الثوري: "ما رأيت أسهل من الورع ما حاك في نفسك فاتركه" وقال سهل: "الحلال هو الذي لا يعصي الله فيه والصافي منه الذي لا ينسى الله فيه" وسأل الحسن غلاما فقال له: "ما ملاك الدين قال: الورع قال: فما آفتة قال: الطمع فعجب الحسن منه" وقال الحسن: "مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة" وقال أبو هريرة: "جلساء الله غدا أهل الورع والزهد"
وقال بعض السلف: "لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس" وقال بعض الصحابة: "كنا ندع سبعين بابا من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام"
فصل
قال صاحب المنازل الورع: "توق مستقصى على حذر وتحرج على تعظيم"
يعني أن يتوقى الحرام والشبه وما يخاف أن يضره أقصى ما يمكنه من التوقي لأن التوقي والحذر متقاربان إلا أن التوقي فعل الجوارح و الحذر فعل القلب فقد يتوقى العبد الشيء لا على وجه الحذر والخوف ولكن لأمور أخرى: من إظهار نزاهة وعزة وتصوف أو اعتراض آخر كتوقي الذين لا يؤمنون بمعاد ولا جنة ولا نار ما يتوقونه من الفواحش والدناءة تصونا عنها ورغبة بنفوسهم عن مواقعتها وطلبا للمحمدة ونحو ذلك
وقوله: "أو تحرج على تعظيم" يعني أن الباعث على الورع عن المحارم والشبه إما حذر حلول الوعيد وإما تعظيم الرب جل جلاله وإجلالا له أن يتعرض لما نهى عنه فالورع عن المعصية: إما تخوف أو تعظيم واكتفى بذكر التعظيم عن ذكر الحب الباعث على ترك معصية المحبوب لأنه لا يكون إلا مع تعظيمه وإلا فلو خلا القلب من تعظيمه لم تستلزم محبته ترك مخالفته كمحبة الإنسان ولده وعبده وأمته فإذا قارنه التعظيم أوجب ترك المخالفة قال: "وهو آخر مقام الزهد للعامة وأول مقام الزهد للمريد" يعني أن هذا التوقي والتحرج بوصف الحذر والتعظيم: هو نهاية لزهد العامة وبداية لزهد المريد وإنما كان كذلك لأن الورع كما تقدم هو أول الزهد وركنه وزهد المريد: فوق زهد العامة ونهاية العامة: هى بداية المريد فنهاية مقام هذا هي بداية مقام هذا فإذا انتهى ورع العامة صار زهدا وهو أول ورع المريد قال: "وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: تجنب القبائح لصون النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان"
هذه ثلاث فوائد من فوائد تجنب القبائح إحداها: صون النفس وهو حفظها وحمايتها عما يشينها ويعيبها ويزري بها عند الله عز وجل وملائكته وعباده المؤمنين وسائر خلقه فإن من كرمت عليه نفسه وكبرت عنده: صانها وحماها وزكاها وعلاها ووضعها في أعلى المحال وزاحم بها أهل العزائم والكمالات ومن هانت عليه نفسه وصغرت عنده أنقاها في الرذائل وأطلق شناقها وحل زمامها وأرخاه ودساها ولم يصنها عن قبيح فأقل ما في تجنب القبائح: صون النفس
وأما توفير الحسنات فمن وجهين
أحدهما: توفير زمانه على اكتساب الحسنات فإذا اشتغل بالقبائح نقصت عليه الحسنات التي كان مستعدا لتحصيلها
والثاني: توفير الحسنات المفعولة عن نقصانها بموازنة السيئات وحبوطها كما تقدم في منزلة التوبة: أن السيئات قد تحبط الحسنات وقد تستغرقها بالكلية أو تنقصها فلا بد أن تضعفها قطعا فتجنبها يوفر ديوان الحسنات وذلك بمنزلة من له مال حاصل فإذا استدان عليه فإما أن يستغرقه الدين أو يكثره أو ينقصه فهكذا الحسنات والسيئات سواء وأما صيانة الإيمان فلأن الإيمان عند جميع أهل السنة يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وقد حكاه الشافعي وغيره عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم وإضعاف المعاصي للإيمان أمر معلوم بالذوق والوجود فإن العبد كما جاء في الحديث إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب واستغفر صقل قلبه وإن عاد فأذنب نكت فيه نكتة أخرى حتى تعلو قلبه وذلك الران الذي قال الله تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [ المطففين: 14 ] فالقبائح تسود القلب وتطفىء نوره والإيمان هو نور فى القلب والقبائح تذهب به أو تقلله قطعا فالحسنات تزيد نور القلب والسيئات تطفىء نور القلب وقد
أخبر الله عز وجل أن كسب القلوب سبب للران الذي يعلوها وأخبر أنه أركس المنافقين بما كسبوا فقال: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [ النساء: 88 ] وأخبر أن نقض الميثاق الذي أخذه على عباده سبب لتقسية القلب فقال فيما نقضهم ميثقاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به [ المائده: 13 ] فجعل ذنب النقض موجبا لهذه الآثار: من تقسية القلب واللعنة وتحريف الكلم ونسيان العلم فالمعاصي للإيمان كالمرض والحمى للقوة سواء بسواء ولذلك قال السلف: المعاصي بريد الكفر كما أن الحمى بريد الموت
فإيمان صاحب القبائح كقوة المريض على حسب قوة مرضه وضعفه وهذه الأمور الثلاثة وهي صون النفس وتوفير الحسنات وصيانة الإيمان هي أرفع من باعث العامة على الورع لأن صاحبها أرفع همة لأنه عامل على تزكية نفسه وصونها وتأهيلها للوصول إلى ربها فهو يصونها عما يشينها عنده ويحجبها عنه ويصون حسناته عما يسقطها ويضعها لأنه يسير بها إلى ربه ويطلب بها رضاه ويصون إيمانه بربه: من حبه له وتوحيده ومعرفته به ومراقبته إياه عما يطفىء نوره ويذهب بهجته ويوهن قوته قال الشيخ وهذه الثلاث الصفات: هي في الدرجة الأولى من ورع المريدين
يعني أن للمريدين درجتين أخريين من الورع فوق هذه ثم ذكرهما فقال: الدرجة الثانية: حفظ الحدود عند ما لا بأس به إبقاء على الصيانة والتقوى وصعودا عن الدناءة وتخلصاعن اقتحام الحدود
يقول: إن من صعد عن الدرجة الأولى إلى هذه الدرجة من الورع يترك كثيرا مما لا بأس به من المباح إبقاء على صيانته وخوفا عليها أن يتكدر
صفوها ويطفأ نورها فإن كثيرا من المباح يكدر صفو الصيانة ويذهب بهجتها ويطفىء نورها ويخلق حسنها وبهجتها وقال لي يوما شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية وإن لم يكن تركه شرطا في النجاة أو نحو هذا من الكلام فالعارف يترك كثيرا من المباح إبقاء على صيانته ولا سيما إذا كان ذلك المباح برزخا بين الحلال والحرام فإن بينهما برزخا كما تقدم فتركه لصاحب هذه الدرجة كالمتعين الذي لا بد منه لمنافاته لدرجته والفرق بين صاحب الدرجة الأولى وصاحب هذه: أن ذلك يسعى في تحصيل الصيانة وهذا يسعى في حفظ صفوها أن يتكدر ونورها أن يطفأ ويذهب وهو معنى قوله: إبقاء على الصيانة
وأما الصعود عن الدناءة: فهو الرفع عن طرقاتها وأفعالها
وأما التخلص عن اقتحام الحدود فالحدود: هي النهايات وهي مقاطع الحلال والحرام فحيث ينقطع وينتهي فذلك حده فمن اقتحمه وقع في المعصية وقد نهى الله تعالى عن تعدي حدوده وعن قربانها فقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [ البقره وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [ البقره: 229 ] فإن الحدود يراد بها أواخر الحلال وحيث نهى عن القربان فالحدود هناك: أوائل الحرام يقول سبحانه: لا تتعدوا ما أبحت لكم ولا تقربوا ما حرمت عليكم فالورع يخلص العبد من قربان هذه وتعدي هذه وهو اقتحام الحدود قال: الدرجة الثالثة: التورع عن كل داعية تدعو إلى شتات الوقت والتعلق بالتفرق وعارض يعارض حال الجمع الفرق بين شتات الوقت والتعلق بالتفرق: كالفرق بين السبب والمسبب
والنفي والإثبات فإنه يتشتت وقته فلا يجد بدا من التعلق بما سوى مطلوبه الحق إذ لا تعطيل في النفس ولا في الإرادة فمن لم يكن الله مراده أراد ما سواه ومن لم يكن هو وحده معبوده عبد ما سواه ومن لم يكن عمله لله فلا بد أن يعمل لغيره وقد تقدم هذا فالمخلص يصونه الله بعبادته وحده وإرادة وجهه وخشيته وحده ورجائه وحده والطلب منه والذل منه والافتقار إليه وحده وإنما كان هذا أعلى من الدرجة الثانية: لأن أربابها اشتغلوا بحفظ الصيانة من الكدر وملاحظتها وذلك عند أهل الدرجة الثالثة: تفرق عن الحق واشتغال عن مراقبته بحال نفوسهم فأدب أهل هذه أدب حضور وأدب أولئك أدب غيبة وأما الورع عن كل حال يعارض حال الجمع فمعناه: أن يستغرق العبد شهود فنائه في التوحيد وجمعيته على الله تعالى فيه عن كل حال يعارض هذا الفناء والجمعية وهذا عند الشيخ لما كان هو الغاية التي ليس بعدها مطلب: جعل كل حال يعارضها ويقطع عنها ناقصا بالنسبة إليها فالرغبة عنه غير ورع صاحبها وقد عرفت ما فيه وأن فوق هذا مقام أرفع منه وأعلى وهو الورع عن كل حظ يزاحم مراده منك ولو كان الحظ فناءا وجميعة أو كائنا ما كان وبينا أن الفناء و الجمعية حظ العبد وأن حق الرب وراء ذلك وهو البقاء بمراده فرقا وجمعا به وله وعلى هذا فالورع الخاص: الورع عن كل حال يعارض حال القيام بالأمر والبقاء به فرقا وجمعا والله المستعان
فصل الخوف يثمر الورع والاستعانة وقصر الأمل وقوة الإيمان باللقاء
تثمر الزهد والمعرفة تثمر المحبة والخوف والرجاء والقناعة تثمر الرضاء والذكر يثمر حياة القلب والإيمان بالقدر يثمر التوكل ودوام تأمل الأسماء والصفات يثمر المعرفة والورع يثمر الزهد أيضا والتوبة تثمر المحبة أيضا ودوام الذكر يثمرها والرضا يثمر الشكر والعزيمة والصبر يثمران جميع الأحوال والمقامات والإخلاص والصدق كل منهما يثمر الآخر ويقتضيه والمعرفة تثمر الخلق والفكر يثمر العزيمة والمراقبة تثمر عمارة الوقت وحفظ الأيام والحياء والخشية والإنابة وإماتة النفس وإذلالها وكسرها: يوجب حياة القلب وعزه وجبره ومعرفة النفس ومقتها يوجب الحياء من الله عز وجل واستكثار ما منه واستقلال ما منك من الطاعات ومحو أثر الدعوى من القلب واللسان وصحة البصيرة تثمر اليقين وحسن التأمل لما ترى تسمع من الآيات المشهودة والمتلوة يثمر صحة البصيرة وملاك ذلك كله: أمران أحدهما: أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها وتدبرها وفهم ما يراد منه وما نزل لأجله وأخذ نصيبك وحظك من كل آية من آياته تنزلها على داء قلبك فهذه طريق مختصرة قريبة سهلة موصلة إلى الرفيق الأعلى آمنة لا يلحق سالكها خوف ولا عطب ولا جوع ولا عطش ولا فيها آفة من آفات سائر الطريق ألبتة وعليها من الله حارس وحافظ يكلأ السالكين فيها ويحميهم ويدفع عنهم ولا يعرف قدر هذه الطريق إلا من عرف طرق الناس وغوائلها وآفاتها وقطاعها والله المستعان
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى