- عز الدينرائع فوق العادة
- الجنس : عدد المساهمات : 670
تاريخ التسجيل : 01/03/2011
العمر : 49
العمل/الترفيه : بحري قديم
المزاج : يا من لجرح كلما سكنته ** لكأ الحشى بمواجع ومآسي // لو انه في الرأس كنت ضمدته ** لكنه في القلب لا في الرأسِ
منزلة (التهذيب والتصفية).
الثلاثاء 02 أغسطس 2011, 3:41 am
منزلة التهذيب والتصفية
من منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التهذيب والتصفية
وهو سبك العبودية في كير الامتحان طلبا لإخراج ما فيها من الخبث والغش قال صاحب المنازل: التهذيب: محنة أرباب البدايات وهو شريعة من شرائع الرياضة يريد: أنه صعب على المبتدي فهو له كالمحنة وطريقة للمرتاض الذي قد مرن نفسه حتى اعتادت قبوله وانقادت إليه
قال: وهو على ثلاث درجات الأولى: تهذيب الخدمة أن لا يخالجها جهالة ولا يشوبها عادة ولا يقف عندها همة أي: تخليص العبودية وتصفيتها من هذه الأنواع الثلاثة وهي: مخالجة الجهالة وشوب العادة ووقوف همة الطالب عندها النوع الأول: مخالطة الجهال فإن الجهالة متى خالطت العبودية أوردها العبد غير موردها ووضعها في غير موضعها وفعلها في غير مستحقها وفعل أفعالا يعتقد أنها صلاح وهي إفساد لخدمته وعبوديته بأن يتحرك في موضع السكون أو يسكن فى موضع التحرك أو يفرق في موضع جمع أو يجمع في موضع فرق أو يطير في موضع سفوف أو يسف في موضع طيران أو يقدم في موضع إحجام أو يحجم في موضع إقدام أو يتقدم في موضع وقوف أو يقف في موضع تقدم ونحو ذلك من الحركات التي هي في حق الخدمة: كحركات الثقيل البغيض في حقوق الناس فالخدمة ما لم يصحبها علم ثان بآدابها وحقوقها غير العلم بها نفسها كانت في مظنة أن تبعد صاحبها وإن كان مراده بها التقرب ولا يلزم حبوط ثوابها وأجرها فهي إن لم تبعده عن الأجر والثواب أبعدته عن المنزلة والقربة ولا تنفصل مسائل هذه الجملة إلا بمعرفة خاصة بالله وأمره ومحبة تامة له ومعرفة بالنفس وما منها النوع الثاني: شوب العادة وهو أن يمازج العبودية حكم من أحكام عوائد النفس تكون منفذة لها معينة عليها وصاحبها يعتقدها قربة وطاعة كمن اعتاد الصوم مثلا وتمرن عليه فألفته النفس وصار لها عادة تتقاضاها أشد اقتضاء فيظن أن هذا التقاضي محض العبودية وإنما هو تقاضي العادة
وعلامة هذا: أنه إذا عرض عليها طاعة دون ذلك وأيسر منه وأتم مصلحة: لم تؤثرها إيثارها لما اعتادته وألفته كما حكى عن بعض الصالحين من الصوفية قال: حججت كذا وكذا حجة على التجريد فبان لي أن جميع ذلك كان مشوبا بحظي وذلك: أن والدتي سألتني أن أستقي لها جرعة ماء فثقل ذلك على نفسي فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كان بحظ نفسي وإرادتها إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع النوع الثالث: وقوف همته عند الخدمة وذلك علامة ضعفها وقصورها فإن العبد المحض لا تقف همته عند خدمة بل همته أعلى من ذلك إذ هي طالبة لرضى مخدومه فهو دائما مستصغر خدمته له ليس واقفا عندها والقناعة تحمد من صاحبها إلا في هذا الموضع فإنها عين الحرمان فالمحب لا يقنع بشيء دون محبوبه فوقوف همة العبد مع خدمته وأجرتها: سقوط فيها وحرمان قال: الدرجة الثانية: تهذيب الحال وهو أن لا يجنح الحال إلى علم ولا يخضع لرسم ولا يلتفت إلى حظ أما جنوح الحال إلى العلم فهو نوعان: ممدوح ومذموم فالممدوح: التفاته إليه وإصغاؤه إلى ما يأمر به وتحكيمه عليه فمتى لم يجنح إليه هذا الجنوح كان حالا مذموما ناقصا مبعدا عن الله فإن كل حال لا يصحبه علم: يخاف عليه أن يكون من خدع الشيطان وهذا القدر هو الذي أفسد على أرباب الأحوال أحوالهم وعلى أهل الثغور ثغورهم وشردهم عن الله كل مشرد وطردهم عنه كل مطرد حيث لم يحكموا عليه العلم وأعرضوا عنه صفحا حتى قادهم إلى الانسلاخ من حقائق الإيمان وشرائع الإسلام
وهم الذين قال فيهم سيد الطائفة الجنيد بن محمد لما قيل له: أهل المعرفة يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله فقال الجنيد: إن هذا
كلام قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الجوارح وهو عندي عظيمة الذي يزني ويسرق أحسن حالا من الذي يقول هذا فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإليه رجعوا فيها ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها
وقال: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول
وقال: من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث: لا يقتدي به في طريقنا هذا لأن طريقنا وعلمنا مقيد بالكتاب والسنة وقال: علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والبلية التي عرضت لهؤلاء: أن أحكام العلم تتعلق بالعلم وتدعو إليه وأحكام الحال تتعلق بالكشف وصاحب الحال ترد عليه أمور ليست في طور العلم فإن أقام عليها ميزان العلم ومعياره تعارض عنده العلم والحال فلم يجد بدا من الحكم على أحدهما بالإبطال فمن حصلت له أحوال الكشف ثم جنح إلى أحكام العلم فقد رجع القهقرى وتأخر في سيره إلى وراء فتأمل هذا الوارد وهذه الشبهة التي هي سم ناقع: تخرج صاحبها من المعرفة والدين كإخراج الشعرة من العجين
واعلم أن المعرفة الصحيحة: هي روح العلم والحال الصحيح: هو روح العمل المستقيم فكل حال لا يكون نتيجة العمل المستقيم مطابقا للعلم: فهو بمنزلة الروح الخبيثة الفاجرة ولا ينكر أن يكون لهذه الروح أحوال لكن الشأن في مرتبة تلك الأحوال ومنازلها فمتى عارض الحال حكم من أحكام العلم فذلك الحال إما فاسد وإما ناقص ولا يكون مستقيما أبدا
فالعلم الصحيح والعمل المستقيم: هما ميزان المعرفة الصحيحة والحال الصحيح وهما كالبدنين لروحيهما
فأحسن ما يحمل عليه قوله: أن لا يجنح الحال إلى العلم أن العلم يدعو إلى التفرقة دائما والحال يدعو إلى الجمعية والقلب بين هذين الداعيين فهو يجيب هذا مرة وهذا مرة فتهذيب الحال وتصفيته: أن يجيب داعي الحال لا داعي العلم ولا يلزم من هذا إعراضه عن العلم وعدم تحكيمه والتسليم له بل هو متعبد بالعلم محكم له مستسلم له غير مجيب لداعيه من التفرقة بل هو مجيب لداعي الحال والجمعية آخذ من العلم ما يصحح له حاله وجمعيته غير مستغرق فيه استغراق من هو مطرح همته وغاية مقصده لا مطلوب له سواه ولا مراد له إلا إياه فالعلم عنده آلة ووسيلة وطريق توصله إلى مقصده ومطلوبه فهو كالدليل بين يديه يدعوه إلى الطريق ويدله عليها فهو يجيب داعيه للدلالة ومعرفة الطريق وما في قلبه من ملاحظة مقصده ومطلبه من سيره وسفره وباعث همته على الخروج من أوطانه ومرباه ومن بين أصحابه وخلطائه الحامل له على الاغتراب والتفرد في طريق الطلب: هو المسير له والمحرك والباعث فلا يجنح عن داعيه إلى اشتغاله بجزئيات أحوال الدليل وما هو خارج عن دلالته على طريقه فهذا مقصد شيخ الإسلام إن شاء الله تعالى لا الوجه الأول والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل: وأما قوله: ولا يخضع لرسم أي لا يستولي على قلبه شيء
من الكائنات بحيث يخضع له قلبه فإن صاحب الحال: إنما يطلب الحي القيوم فلا ينبغي له أن يقف عند المعاهد والرسوم وأما قوله: ولا يلتفت إلى حظ أي إذا حصل له الحال التام: لم يشتغل بفرحه به وحظه منه واستلذاذه فإن ذلك حظ من حظوظ النفس وبقية من بقاياها
فصل قال صاحب المنازل: الدرجة الثالثة: تهذيب القصد وهو تصفيته من ذل الإكراه وتحفظه من مرض الفتور ونصرته على منازعات العلم
هذه أيضا ثلاثة أشياء تهذب قصده تصفيه
أحدها: تصفيته من ذل الإكراه أي لا يسوق نفسه إلى الله كرها كالأجير المسخر المكلف بل تكون دواعي قلبه وجواذبه منساقة إلى الله طوعا ومحبة وإيثارا كجريان الماء في منحدره وهذه حال المحبين الصادقين فإن عبادتهم طوعا ومحبة ورضى ففيها قرة عيونهم وسرور قلوبهم ولذة أرواحهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" وكان يقول: "يا بلال أرحنا بالصلاة"
فقرة عين المحب ولذته ونعيم روحه: في طاعة محبوبه بخلاف المطيع كرها المتحمل للخدمة ثقلا
وفي قوله: ذل الإكراه لطيفة وهي أن المطيع كرها يرى أنه لولا ذل قهره وعقوبة سيده له لما أطاعه فهو يتحمل طاعته كالمكره الذي قد أذله مكرهه وقاهره بخلاف المحب الذي يعد طاعة محبوبه قوتا ونعيما ولذة وسرورا فهذا ليس الحامل له ذل الإكراه
والثاني: تحفظه من مرض الفتور أي توقيه من مرض فتور قصده وخمود نار طلبه فإن العزم هو روح القصد ونشاطه كالصحة له وفتوره مرض من أمراضه فتهذيب قصده وتصفيته بحميته من أسباب هذا المرض الذي هو فتوره وإنما يتحفظ منه بالحمية من أسبابه وهو أن يلهو عن الفضول من كل شيء ويحرص على ترك ما لا يعنيه ولا يتكلم إلا فيما يرجو فيه زيادة إيمانه وحاله مع الله
ولا يصحب إلا من يعينه على ذلك فإن بلي بمن لا يعينه فليدرأه عنه ما استطاع ويدفعه دفع الصائل
الثالث: نصرة قصده على منازعات العلم ومعنى ذلك: نصرة خاطر العبودية المحضة والجمعية فيها والإقبال على الله فيها بكلية القلب على جواذب العلم والفكرة في دقائقه وتفاريع مسائله وفضلاته أو أن العلم يطلب من العبد العمل للرغبة والرهبة والثواب وخوف العقاب
فتهذيب القصد: تصفيته من ملاحظة ذلك وتجريده: أن يكون قصده وعبوديته محبة لله بلا علة وأن لا يحب الله لما يعطيه ويحميه منه فتكون محبته لله محبة الوسائل ومحبته بالقصد الأول: لما يناله من الثواب المخلوق فهو المحبوب له بالذات بحيث إذا حصل له محبوبه تسلى به عن محبة من أعطاه إياه فإن من أحبك لأمر والاك عند حصوله وملك عند انقضائه والمحب الصادق يخاف أن تكون محبته لغرض من الأغراض فتنقضي محبته عند انقضاء ذلك الغرض وإنما مراده: أن محبته تدوم لا تنقضي أبدا وأن لا يجعل محبوبه وسيلة له إلى غيره بل يجعل ما سواه وسيلة له إلى محبوبه وهذا القدر هو الذي حام عليه القوم وداروا حوله وتكلموا فيه وشمروا إليه فمنهم من أحسن التعبير عنه ومنهم من أساء العبارة وقصده وصدقه يصلح فساد عبارته ومن الناس: من لم يفهم هذا كما ينبغي فلم يجد له ملجأ غير الإنكار والله يغفر لكل من قصده الحق واتباع مرضاته فإنه واسع المغفرة
من منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة التهذيب والتصفية
وهو سبك العبودية في كير الامتحان طلبا لإخراج ما فيها من الخبث والغش قال صاحب المنازل: التهذيب: محنة أرباب البدايات وهو شريعة من شرائع الرياضة يريد: أنه صعب على المبتدي فهو له كالمحنة وطريقة للمرتاض الذي قد مرن نفسه حتى اعتادت قبوله وانقادت إليه
قال: وهو على ثلاث درجات الأولى: تهذيب الخدمة أن لا يخالجها جهالة ولا يشوبها عادة ولا يقف عندها همة أي: تخليص العبودية وتصفيتها من هذه الأنواع الثلاثة وهي: مخالجة الجهالة وشوب العادة ووقوف همة الطالب عندها النوع الأول: مخالطة الجهال فإن الجهالة متى خالطت العبودية أوردها العبد غير موردها ووضعها في غير موضعها وفعلها في غير مستحقها وفعل أفعالا يعتقد أنها صلاح وهي إفساد لخدمته وعبوديته بأن يتحرك في موضع السكون أو يسكن فى موضع التحرك أو يفرق في موضع جمع أو يجمع في موضع فرق أو يطير في موضع سفوف أو يسف في موضع طيران أو يقدم في موضع إحجام أو يحجم في موضع إقدام أو يتقدم في موضع وقوف أو يقف في موضع تقدم ونحو ذلك من الحركات التي هي في حق الخدمة: كحركات الثقيل البغيض في حقوق الناس فالخدمة ما لم يصحبها علم ثان بآدابها وحقوقها غير العلم بها نفسها كانت في مظنة أن تبعد صاحبها وإن كان مراده بها التقرب ولا يلزم حبوط ثوابها وأجرها فهي إن لم تبعده عن الأجر والثواب أبعدته عن المنزلة والقربة ولا تنفصل مسائل هذه الجملة إلا بمعرفة خاصة بالله وأمره ومحبة تامة له ومعرفة بالنفس وما منها النوع الثاني: شوب العادة وهو أن يمازج العبودية حكم من أحكام عوائد النفس تكون منفذة لها معينة عليها وصاحبها يعتقدها قربة وطاعة كمن اعتاد الصوم مثلا وتمرن عليه فألفته النفس وصار لها عادة تتقاضاها أشد اقتضاء فيظن أن هذا التقاضي محض العبودية وإنما هو تقاضي العادة
وعلامة هذا: أنه إذا عرض عليها طاعة دون ذلك وأيسر منه وأتم مصلحة: لم تؤثرها إيثارها لما اعتادته وألفته كما حكى عن بعض الصالحين من الصوفية قال: حججت كذا وكذا حجة على التجريد فبان لي أن جميع ذلك كان مشوبا بحظي وذلك: أن والدتي سألتني أن أستقي لها جرعة ماء فثقل ذلك على نفسي فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كان بحظ نفسي وإرادتها إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع النوع الثالث: وقوف همته عند الخدمة وذلك علامة ضعفها وقصورها فإن العبد المحض لا تقف همته عند خدمة بل همته أعلى من ذلك إذ هي طالبة لرضى مخدومه فهو دائما مستصغر خدمته له ليس واقفا عندها والقناعة تحمد من صاحبها إلا في هذا الموضع فإنها عين الحرمان فالمحب لا يقنع بشيء دون محبوبه فوقوف همة العبد مع خدمته وأجرتها: سقوط فيها وحرمان قال: الدرجة الثانية: تهذيب الحال وهو أن لا يجنح الحال إلى علم ولا يخضع لرسم ولا يلتفت إلى حظ أما جنوح الحال إلى العلم فهو نوعان: ممدوح ومذموم فالممدوح: التفاته إليه وإصغاؤه إلى ما يأمر به وتحكيمه عليه فمتى لم يجنح إليه هذا الجنوح كان حالا مذموما ناقصا مبعدا عن الله فإن كل حال لا يصحبه علم: يخاف عليه أن يكون من خدع الشيطان وهذا القدر هو الذي أفسد على أرباب الأحوال أحوالهم وعلى أهل الثغور ثغورهم وشردهم عن الله كل مشرد وطردهم عنه كل مطرد حيث لم يحكموا عليه العلم وأعرضوا عنه صفحا حتى قادهم إلى الانسلاخ من حقائق الإيمان وشرائع الإسلام
وهم الذين قال فيهم سيد الطائفة الجنيد بن محمد لما قيل له: أهل المعرفة يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله فقال الجنيد: إن هذا
كلام قوم تكلموا بإسقاط الأعمال عن الجوارح وهو عندي عظيمة الذي يزني ويسرق أحسن حالا من الذي يقول هذا فإن العارفين بالله أخذوا الأعمال عن الله وإليه رجعوا فيها ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها
وقال: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول
وقال: من لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث: لا يقتدي به في طريقنا هذا لأن طريقنا وعلمنا مقيد بالكتاب والسنة وقال: علمنا هذا مشيد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والبلية التي عرضت لهؤلاء: أن أحكام العلم تتعلق بالعلم وتدعو إليه وأحكام الحال تتعلق بالكشف وصاحب الحال ترد عليه أمور ليست في طور العلم فإن أقام عليها ميزان العلم ومعياره تعارض عنده العلم والحال فلم يجد بدا من الحكم على أحدهما بالإبطال فمن حصلت له أحوال الكشف ثم جنح إلى أحكام العلم فقد رجع القهقرى وتأخر في سيره إلى وراء فتأمل هذا الوارد وهذه الشبهة التي هي سم ناقع: تخرج صاحبها من المعرفة والدين كإخراج الشعرة من العجين
واعلم أن المعرفة الصحيحة: هي روح العلم والحال الصحيح: هو روح العمل المستقيم فكل حال لا يكون نتيجة العمل المستقيم مطابقا للعلم: فهو بمنزلة الروح الخبيثة الفاجرة ولا ينكر أن يكون لهذه الروح أحوال لكن الشأن في مرتبة تلك الأحوال ومنازلها فمتى عارض الحال حكم من أحكام العلم فذلك الحال إما فاسد وإما ناقص ولا يكون مستقيما أبدا
فالعلم الصحيح والعمل المستقيم: هما ميزان المعرفة الصحيحة والحال الصحيح وهما كالبدنين لروحيهما
فأحسن ما يحمل عليه قوله: أن لا يجنح الحال إلى العلم أن العلم يدعو إلى التفرقة دائما والحال يدعو إلى الجمعية والقلب بين هذين الداعيين فهو يجيب هذا مرة وهذا مرة فتهذيب الحال وتصفيته: أن يجيب داعي الحال لا داعي العلم ولا يلزم من هذا إعراضه عن العلم وعدم تحكيمه والتسليم له بل هو متعبد بالعلم محكم له مستسلم له غير مجيب لداعيه من التفرقة بل هو مجيب لداعي الحال والجمعية آخذ من العلم ما يصحح له حاله وجمعيته غير مستغرق فيه استغراق من هو مطرح همته وغاية مقصده لا مطلوب له سواه ولا مراد له إلا إياه فالعلم عنده آلة ووسيلة وطريق توصله إلى مقصده ومطلوبه فهو كالدليل بين يديه يدعوه إلى الطريق ويدله عليها فهو يجيب داعيه للدلالة ومعرفة الطريق وما في قلبه من ملاحظة مقصده ومطلبه من سيره وسفره وباعث همته على الخروج من أوطانه ومرباه ومن بين أصحابه وخلطائه الحامل له على الاغتراب والتفرد في طريق الطلب: هو المسير له والمحرك والباعث فلا يجنح عن داعيه إلى اشتغاله بجزئيات أحوال الدليل وما هو خارج عن دلالته على طريقه فهذا مقصد شيخ الإسلام إن شاء الله تعالى لا الوجه الأول والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل: وأما قوله: ولا يخضع لرسم أي لا يستولي على قلبه شيء
من الكائنات بحيث يخضع له قلبه فإن صاحب الحال: إنما يطلب الحي القيوم فلا ينبغي له أن يقف عند المعاهد والرسوم وأما قوله: ولا يلتفت إلى حظ أي إذا حصل له الحال التام: لم يشتغل بفرحه به وحظه منه واستلذاذه فإن ذلك حظ من حظوظ النفس وبقية من بقاياها
فصل قال صاحب المنازل: الدرجة الثالثة: تهذيب القصد وهو تصفيته من ذل الإكراه وتحفظه من مرض الفتور ونصرته على منازعات العلم
هذه أيضا ثلاثة أشياء تهذب قصده تصفيه
أحدها: تصفيته من ذل الإكراه أي لا يسوق نفسه إلى الله كرها كالأجير المسخر المكلف بل تكون دواعي قلبه وجواذبه منساقة إلى الله طوعا ومحبة وإيثارا كجريان الماء في منحدره وهذه حال المحبين الصادقين فإن عبادتهم طوعا ومحبة ورضى ففيها قرة عيونهم وسرور قلوبهم ولذة أرواحهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" وكان يقول: "يا بلال أرحنا بالصلاة"
فقرة عين المحب ولذته ونعيم روحه: في طاعة محبوبه بخلاف المطيع كرها المتحمل للخدمة ثقلا
وفي قوله: ذل الإكراه لطيفة وهي أن المطيع كرها يرى أنه لولا ذل قهره وعقوبة سيده له لما أطاعه فهو يتحمل طاعته كالمكره الذي قد أذله مكرهه وقاهره بخلاف المحب الذي يعد طاعة محبوبه قوتا ونعيما ولذة وسرورا فهذا ليس الحامل له ذل الإكراه
والثاني: تحفظه من مرض الفتور أي توقيه من مرض فتور قصده وخمود نار طلبه فإن العزم هو روح القصد ونشاطه كالصحة له وفتوره مرض من أمراضه فتهذيب قصده وتصفيته بحميته من أسباب هذا المرض الذي هو فتوره وإنما يتحفظ منه بالحمية من أسبابه وهو أن يلهو عن الفضول من كل شيء ويحرص على ترك ما لا يعنيه ولا يتكلم إلا فيما يرجو فيه زيادة إيمانه وحاله مع الله
ولا يصحب إلا من يعينه على ذلك فإن بلي بمن لا يعينه فليدرأه عنه ما استطاع ويدفعه دفع الصائل
الثالث: نصرة قصده على منازعات العلم ومعنى ذلك: نصرة خاطر العبودية المحضة والجمعية فيها والإقبال على الله فيها بكلية القلب على جواذب العلم والفكرة في دقائقه وتفاريع مسائله وفضلاته أو أن العلم يطلب من العبد العمل للرغبة والرهبة والثواب وخوف العقاب
فتهذيب القصد: تصفيته من ملاحظة ذلك وتجريده: أن يكون قصده وعبوديته محبة لله بلا علة وأن لا يحب الله لما يعطيه ويحميه منه فتكون محبته لله محبة الوسائل ومحبته بالقصد الأول: لما يناله من الثواب المخلوق فهو المحبوب له بالذات بحيث إذا حصل له محبوبه تسلى به عن محبة من أعطاه إياه فإن من أحبك لأمر والاك عند حصوله وملك عند انقضائه والمحب الصادق يخاف أن تكون محبته لغرض من الأغراض فتنقضي محبته عند انقضاء ذلك الغرض وإنما مراده: أن محبته تدوم لا تنقضي أبدا وأن لا يجعل محبوبه وسيلة له إلى غيره بل يجعل ما سواه وسيلة له إلى محبوبه وهذا القدر هو الذي حام عليه القوم وداروا حوله وتكلموا فيه وشمروا إليه فمنهم من أحسن التعبير عنه ومنهم من أساء العبارة وقصده وصدقه يصلح فساد عبارته ومن الناس: من لم يفهم هذا كما ينبغي فلم يجد له ملجأ غير الإنكار والله يغفر لكل من قصده الحق واتباع مرضاته فإنه واسع المغفرة
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى