- عز الدينرائع فوق العادة
- الجنس : عدد المساهمات : 670
تاريخ التسجيل : 01/03/2011
العمر : 49
العمل/الترفيه : بحري قديم
المزاج : يا من لجرح كلما سكنته ** لكأ الحشى بمواجع ومآسي // لو انه في الرأس كنت ضمدته ** لكنه في القلب لا في الرأسِ
منزلة (اليقين).
الأربعاء 10 أغسطس 2011, 5:48 am
منزلة اليقين
من منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة اليقين
وهو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد وبه تفاضل العارفون وفيه تنافس المتنافسون وإليه شمر العاملون وعمل القوم إنما كان عليه وإشاراتهم كلها إليه وإذا تزوج الصبر باليقين: ولد بينهما حصول الإمامة في الدين قال الله تعالى وبقوله يهتدي المهتدون: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [ السجدة: 24 ] وخص سبحانه أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين فقال وهو أصدق القائلين: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [ الذرايات: 20 ] وخص أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [ البقرة: 4-5 ] وأخبر عن أهل النار: بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [ الجاثية: 32 ] ف اليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال القلوب التي هي من أعمال الجوارح وهو حقيقة الصديقية وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره وروى خالد بن يزيد عن السفيانين عن التيمي عن خيثمة عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترضين أحدا بسخط الله ولا تحمدن أحدا على فضل الله ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله فإن ما رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص ولا يرده عنك كراهية كاره" وإن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط واليقين قرين التوكل ولهذا فسر التوكل بقوة اليقين
والصواب: أن التوكل ثمرته ونتيجته ولهذا حسن اقتران الهدى به قال الله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [ النمل: 79 ] فالحق: هو اليقين وقالت رسل الله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [ إبراهيم: 12 ] ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم فامتلأ محبة لله وخوفا منه ورضي به وشكراله وتوكلاعليه وإنابة إليه فهو مادة جميع المقامات والحامل لها واختلف فيه: هل هو كسبي أو موهبي فقيل: هو العلم المستودع في القلوب يشير إلى أنه غير كسبي وقال سهل: اليقين من زيادة الإيمان ولا ريب أن الإيمان كسبي والتحقيق: أنه كسبي باعتبار أسبابه موهبي باعتبار نفسه وذاته قال سهل: ابتداؤه المكاشفة كما قال بعض السلف: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ثم المعاينة والمشاهدة وقال ابن خفيف: هو تحقق الأسرار بأحكام المغيبات وقال أبو بكر بن طاهر: العلم تعارضه الشكوك واليقين لا شك فيه وعند القوم: اليقين لا يساكن قلبا فيه سكون إلى غير الله وقال ذو النون: اليقين يدعو إلى قصر الأمل وقصر الأمل يدعو إلى الزهد والزهد يورث الحكمة وهي تورث النظر في العواقب قال: وثلاثة من أعلام اليقين: قلة مخالطة الناس في العشرة وترك المدح لهم في العطية والتنزه عن ذمهم عند المنع وثلاثة من أعلامه أيضا: النظر إلى الله في كل شيء والرجوع إليه في كل أمر والاستعانة به في كل حال وقال الجنيد: اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب وقال ابن عطاء: على قدر قربهم من التقوى أدركوا من اليقين
وأصل التقوى مباينة النهي وهو مباينة النفس فعلى قدر مفارقتهم النفس: وصلوا إلى اليقين وقيل: اليقين هو المكاشفة وهو على ثلاثة أوجه: مكاشفة في الأخبار ومكاشفة بإظهار القدرة ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان ومراد القوم بالمكاشفة: ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين فلا يبقى معه شك ولا ريب أصلا وهذا نهاية الإيمان وهو مقام الإحسان وقد يريدون بها أمرا آخر وهو ما يراه أحدهم في برزخ بين النوم واليقظة عند أوائل تجرد الروح عن البدن ومن أشار منهم إلى غير هذين: فقد غلط ولبس عليه وقال السري: اليقين سكونك عند جولان الموارد في صدرك لتيقنك أن حركتك فيها لا تنفعك ولا ترد عنك مقضيا وقال أبو بكر الوراق: اليقين ملاك القلب وبه كمال الإيمان وباليقين عرف الله وبالعقل عقل عن الله وقال الجنيد: قد مشى رجال باليقين على الماء ومات بالعطش من هو أفضل منهم يقينا وقد اختلف في تفضيل اليقين على الحضور والحضور على اليقين فقيل: الحضور أفضل لأنه وطنات واليقين خطرات وبعضهم رجح اليقين وقال: هو غاية الإيمان والأول: رأى أن اليقين ابتداء الحضور فكأنه جعل اليقين ابتداء والحضور دواما وهذا الخلاف لا يتبين فإن اليقين لا ينفك عن الحضور ولا الحضور عن
اليقين بل في اليقين من زيادة الإيمان ومعرفة تفاصيله وشعبه وتنزيلها منازلها: ما ليس في الحضور فهو أكمل منه من هذا الوجه وفي الحضور من الجمعية وعدم التفرقة والدخول في الفناء: ما قد ينفك عنه اليقين فاليقين أخص بالمعرفة والحضور أخص بالإرادة والله أعلم وقال النهرجوري: إذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة والرخاء عنده مصيبة وقال أبو بكر الوراق: اليقين على ثلاثة أوجه: يقين خبر ويقين دلالة ويقين مشاهدة يريد بيقين الخبر: سكون القلب إلى خبر المخبر ووتوثقة به وبيقين الدلالة: ما هو فوقه: وهو أن يقيم له مع وثوقه بصدقه الأدلة الدالة على ما أخبر به وهذا كعامة أخبار الإيمان والتوحيد والقرآن فإنه سبحانه مع كونه أصدق الصادقين يقيم لعباده الأدلة والأمثال والبراهين على صدق أخباره فيحصل لهم اليقين من الوجهين: من جهة الخبر ومن جهة الدليل
فيرتفعون من ذلك إلى الدرجة الثالثة وهي يقين المكاشفة بحيث يصبر المخبر به لقلوبهم كالمرئي لعيونهم فنسبة الإيمان بالغيب حينئذ إلى القلب: كنسبة المرئي إلى العين وهذا أعلى أنواع المكاشفة وهي التي أشار إليها عامر بن عبد قيس في قوله: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا وليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من قول علي كما يظنه من لا علم له بالمنقولات وقال بعضهم: رأيت الجنة والنار حقيقة قيل له: وكيف قال: رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورؤيتي لهما بعينيه: آثر عندي من رؤيتي لهما بعيني فإن بصري قد يطغى ويزيغ بخلاف بصره و اليقين يحمله على الأهوال وركوب الأخطار وهو يأمر بالتقدم دائما فإن لم يقارنه العلم: حمل على المعاطب
و العلم يأمر بالتأخر والإحجام فإن لم يصحبه اليقين قعد بصاحبه عن المكاسب والغنائم والله أعلم
فصل قال صاحب المنازل رحمه الله اليقين: مركب الآخذ في هذا الطريق
وهو غاية درجات العامة وقيل: أول خطوة للخاصة لما كان اليقين هو الذي يحمل السائر إلى الله كما قال أبو سعيد الخراز: العلم ما استعملك واليقين ما حملك سماه مركبا يركبه السائر إلى الله فإنه لولا اليقين ما سار ركب إلى الله ولا ثبت لأحد قدم في السلوك إلا به وإنما جعله آخر درجات العامة: لأنهم إليه ينتهون ثم حكى قول من قال: إنه أول خطوة للخاصة يعني: أنه ليس بمقام لهم وإنما هو مبدأ لسلوكهم فمنه يبتدئون سلوكهم وسيرهم وهذا لأن الخاصة عنده سائرون إلى عين الجمع والفناء في شهود الحقيقة لا تقف بهم دونها همة ولا يعرجون دونها على رسم فكل ما دونها فهو عندهم من مشاهد العامة ومنازلهم ومقاماتهم حتى المحبة وحسبك بجعل اليقين نهاية للعامة وبداية لهم قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: علم اليقين وهو قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق ذكر الشيخ رحمه الله في هذه الدرجة ثلاثة أشياء هي متعلق اليقين وأركانه الأولى: قبول ما ظهر من الحق تعالى والذي ظهر منه سبحانه: أوامره ونواهيه وشرعه ودينه الذي ظهر لنا منه على ألسنة رسله فنتلقاه بالقبول
والانقياد والاذعان والتسليم للربوبية والدخول تحت رقع العبودية الثاني: قبول ما غاب للحق وهو الإيمان بالغيب الذي أخبر به الحق سبحانه على لسان رسله من أمور المعاد وتفصيله والجنة والنار وما قبل ذلك: من الصراط والميزان والحساب وما قبل ذلك: من تشقق السماء وانفطارها وانتثار الكواكب ونسف الجبال وطي العالم وما قبل ذلك: من أمور البرزخ ونعيمه وعذابه فقبول هذا كله إيمانا وتصديقا وإيقانا هو اليقين بحيث لا يخالج القلب فيه شبهة ولا شك ولا تناس ولا غفلة عنه فإنه إن لم يهلك يقينه أفسده وأضعفه الثالث: الوقوف عل ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله وهو علم التوحيد الذي أساسه: إثبات الأسماء والصفات وضده: التعطيل والنفي والتجهم فهذا التوحيد يقابله التعطيل وأما التوحيد القصدي الإرادي الذي هو إخلاص العمل لله وعبادته وحده: فيقابله الشرك والتعطيل شر من الشرك فإن المعطل جاحد للذات أو لكمالها وهو جحد لحقيقة الإلهية فإن ذاتا لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا ترضى ولا تغضب ولا تفعل شيئا وليست داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة ولا مجانية له ولا مباينة له ولا مجاورة ولا مجاوزة ولا فوق العرش ولا تحت العرش ولا خلفه ولا أمامه ولا عن يمينه ولا عن يساره: سواء هي والعدم والمشرك مقر بالله وصفاته لكن عبد معه غيره فهو خير من المعطل للذات والصفات
فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته ونعوت كماله وتوحيده وهذه الثلاثة أشرف علوم الخلائق: علم الأمر والنهي وعلم الأسماء والصفات والتوحيد وعلم المعاد واليوم الآخر والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: عين اليقين وهو المغني بالاستدلال عن
الاستدلال وعن الخبر بالعيان وخرق الشهود حجاب العلم الفرق بين علم اليقين وعين اليقين: كالفرق بين الخبر الصادق والعيان وحق اليقين: فوق هذا وقد مثلت المراتب الثلاثة بمن أخبرك: أن عنده عسلا وأنت لا تشك في صدقه ثم أراك إياه فازددت يقينا ثم ذقت منه فالأول: علم اليقين والثاني: عين اليقين والثالث: حق اليقين فعلمنا الآن بالجنة والنار: علم يقين فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك: عين اليقين فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار: فذلك حينئذ حق اليقين قوله: هو المغني بالاستدلال عن الاستدلال
يريد بالاستدلال: الإدراك والشهود يعني صاحبه قد استغنى به عن طلب الدليل فإنه إنما يطلب الدليل ليحصل له العلم بالمدلول فإذا كان المدلول مشاهدا له وقد أدركه بكشفه فأي حاجة به إلى الاستدلال وهذا معنى الاستغناء عن الخبر بالعيان وأما قوله: وخرق الشهود حجاب العلم فيريد به: أن المعارف التي تحصل لصاحب هذه الدرجة: هي من الشهود الخارق لحجاب العلم فإن العلم حجاب عن الشهود ففي هذه الدرجة يرتفع الحجاب ويفضي إلى المعلوم بحيث يكافح بصيرته وقلبه مكافحة
فصل قال: الدرجة الثالثة: حق اليقين وهو إسفار صبح الكشف ثم الخلاص
من كلفة اليقين ثم الفناء في حق اليقين
اعلم أن هذه الدرجة لا تنال في هذا العالم إلا للرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى بعينه الجنة والنار وموسى عليه السلام سمع كلام الله منه إليه بلا واسطة وكلمه تكليما وتجلى للجبل وموسى ينظر فجعله دكا هشيما نعم يحصل لنا حق اليقين من مرتبة وهي ذوق ما أخبر به الرسول من حقائق الإيمان المتعلقة بالقلوب وأعمالها فإن القلب إذا باشرها وذاقها صارت في حقه حق يقين وأما في أمور الآخرة والمعاد ورؤية الله جهرة عيانا وسماع كلامه حقيقة بلا واسطة فحظ المؤمن منه في هذه الدار: الإيمان وعلم اليقين وحق اليقين: يتأخر إلى وقت اللقاء ولكن لما كان السالك عنده ينتهي إلى الفناء ويتحقق شهود الحقيقة ويصل إلى عين الجمع قال: حق اليقين: هو إسفار صبح الكشف
يعنى: تحققه وثبوته وغلبة نوره على ظلمة ليل الحجاب فينتقل من طور العلم إلى الاستغراق في الشهود بالفناء عن الرسم بالكلية وقوله: ثم الخلاص من كلفة اليقين يعني: أن اليقين له حقوق يجب على صاحبه أن يؤديها ويقوم بها ويتحمل كلفها ومشاقها فأذا فني في التوحيد حصل له أمور أخرى رفيعة عالية جدا يصير فيها محمولا بعد أن كان حاملا وطائرا بعذ أن كان سائرا فتزول عنه كلفة حمل تلك الحقوق بل يبقى له كالنفس وكالماء للسمك وهذا أمر التحكم فيه إلى الذوق والإحساس فلا تسرع إلى إنكاره وتأمل حال ذلك الصحابي الذي أخذ تمراته وقعد يأكلها على حاجة وجوع وفاقة إليها فلما عاين سوق الشهادة قد قامت ألقى قوته من يده وقال: إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات وألقاها من يده وقاتل حتى قتل وكذلك أحوال الصحابة رضي الله عنهم كانت مطابقة لما أشار إليه
ولكن بقيت نكتة عظيمة وهي موضع السجدة وهي أن فناءهم لم يكن في توحيد الربوبية وشهود الحقيقة التي يشير إليها أرباب الفناء بل في توحيد الإلهية ففنوا بحبه تعالى عن حب ما سواه وبمراده منهم عن مرادهم وحظوظهم فلم يكونوا عاملين على فناء ولا إلا استغراق في الشهود بحيث يفنون به عن مراد محبوبهم منهم بل قد فنوا بمراده عن مرادهم فهم أهل بقاء في فناء وفرق في جمع وكثرة في وحدة وحقيقة كونية في حقيقة دينية
هم القوم لا قوم إلا هم ولولاهم ما اهتدينا السبيلا
فنسبة أحوال من بعدهم الصحيحة الكاملة إلى أحوالهم: كنسبة ما يرشح من الظرف والقربة إلى ما في داخلها وأما الطريق المنحرفة الفاسدة: فسبيل غير سبيلهم والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
من منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة اليقين
وهو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد وبه تفاضل العارفون وفيه تنافس المتنافسون وإليه شمر العاملون وعمل القوم إنما كان عليه وإشاراتهم كلها إليه وإذا تزوج الصبر باليقين: ولد بينهما حصول الإمامة في الدين قال الله تعالى وبقوله يهتدي المهتدون: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [ السجدة: 24 ] وخص سبحانه أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين فقال وهو أصدق القائلين: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [ الذرايات: 20 ] وخص أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين فقال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [ البقرة: 4-5 ] وأخبر عن أهل النار: بأنهم لم يكونوا من أهل اليقين فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [ الجاثية: 32 ] ف اليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال القلوب التي هي من أعمال الجوارح وهو حقيقة الصديقية وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره وروى خالد بن يزيد عن السفيانين عن التيمي عن خيثمة عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترضين أحدا بسخط الله ولا تحمدن أحدا على فضل الله ولا تذمن أحدا على ما لم يؤتك الله فإن ما رزق الله لا يسوقه إليك حرص حريص ولا يرده عنك كراهية كاره" وإن الله بعدله وقسطه جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط واليقين قرين التوكل ولهذا فسر التوكل بقوة اليقين
والصواب: أن التوكل ثمرته ونتيجته ولهذا حسن اقتران الهدى به قال الله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [ النمل: 79 ] فالحق: هو اليقين وقالت رسل الله: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [ إبراهيم: 12 ] ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم فامتلأ محبة لله وخوفا منه ورضي به وشكراله وتوكلاعليه وإنابة إليه فهو مادة جميع المقامات والحامل لها واختلف فيه: هل هو كسبي أو موهبي فقيل: هو العلم المستودع في القلوب يشير إلى أنه غير كسبي وقال سهل: اليقين من زيادة الإيمان ولا ريب أن الإيمان كسبي والتحقيق: أنه كسبي باعتبار أسبابه موهبي باعتبار نفسه وذاته قال سهل: ابتداؤه المكاشفة كما قال بعض السلف: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا ثم المعاينة والمشاهدة وقال ابن خفيف: هو تحقق الأسرار بأحكام المغيبات وقال أبو بكر بن طاهر: العلم تعارضه الشكوك واليقين لا شك فيه وعند القوم: اليقين لا يساكن قلبا فيه سكون إلى غير الله وقال ذو النون: اليقين يدعو إلى قصر الأمل وقصر الأمل يدعو إلى الزهد والزهد يورث الحكمة وهي تورث النظر في العواقب قال: وثلاثة من أعلام اليقين: قلة مخالطة الناس في العشرة وترك المدح لهم في العطية والتنزه عن ذمهم عند المنع وثلاثة من أعلامه أيضا: النظر إلى الله في كل شيء والرجوع إليه في كل أمر والاستعانة به في كل حال وقال الجنيد: اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يحول ولا يتغير في القلب وقال ابن عطاء: على قدر قربهم من التقوى أدركوا من اليقين
وأصل التقوى مباينة النهي وهو مباينة النفس فعلى قدر مفارقتهم النفس: وصلوا إلى اليقين وقيل: اليقين هو المكاشفة وهو على ثلاثة أوجه: مكاشفة في الأخبار ومكاشفة بإظهار القدرة ومكاشفة القلوب بحقائق الإيمان ومراد القوم بالمكاشفة: ظهور الشيء للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين فلا يبقى معه شك ولا ريب أصلا وهذا نهاية الإيمان وهو مقام الإحسان وقد يريدون بها أمرا آخر وهو ما يراه أحدهم في برزخ بين النوم واليقظة عند أوائل تجرد الروح عن البدن ومن أشار منهم إلى غير هذين: فقد غلط ولبس عليه وقال السري: اليقين سكونك عند جولان الموارد في صدرك لتيقنك أن حركتك فيها لا تنفعك ولا ترد عنك مقضيا وقال أبو بكر الوراق: اليقين ملاك القلب وبه كمال الإيمان وباليقين عرف الله وبالعقل عقل عن الله وقال الجنيد: قد مشى رجال باليقين على الماء ومات بالعطش من هو أفضل منهم يقينا وقد اختلف في تفضيل اليقين على الحضور والحضور على اليقين فقيل: الحضور أفضل لأنه وطنات واليقين خطرات وبعضهم رجح اليقين وقال: هو غاية الإيمان والأول: رأى أن اليقين ابتداء الحضور فكأنه جعل اليقين ابتداء والحضور دواما وهذا الخلاف لا يتبين فإن اليقين لا ينفك عن الحضور ولا الحضور عن
اليقين بل في اليقين من زيادة الإيمان ومعرفة تفاصيله وشعبه وتنزيلها منازلها: ما ليس في الحضور فهو أكمل منه من هذا الوجه وفي الحضور من الجمعية وعدم التفرقة والدخول في الفناء: ما قد ينفك عنه اليقين فاليقين أخص بالمعرفة والحضور أخص بالإرادة والله أعلم وقال النهرجوري: إذا استكمل العبد حقائق اليقين صار البلاء عنده نعمة والرخاء عنده مصيبة وقال أبو بكر الوراق: اليقين على ثلاثة أوجه: يقين خبر ويقين دلالة ويقين مشاهدة يريد بيقين الخبر: سكون القلب إلى خبر المخبر ووتوثقة به وبيقين الدلالة: ما هو فوقه: وهو أن يقيم له مع وثوقه بصدقه الأدلة الدالة على ما أخبر به وهذا كعامة أخبار الإيمان والتوحيد والقرآن فإنه سبحانه مع كونه أصدق الصادقين يقيم لعباده الأدلة والأمثال والبراهين على صدق أخباره فيحصل لهم اليقين من الوجهين: من جهة الخبر ومن جهة الدليل
فيرتفعون من ذلك إلى الدرجة الثالثة وهي يقين المكاشفة بحيث يصبر المخبر به لقلوبهم كالمرئي لعيونهم فنسبة الإيمان بالغيب حينئذ إلى القلب: كنسبة المرئي إلى العين وهذا أعلى أنواع المكاشفة وهي التي أشار إليها عامر بن عبد قيس في قوله: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا وليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من قول علي كما يظنه من لا علم له بالمنقولات وقال بعضهم: رأيت الجنة والنار حقيقة قيل له: وكيف قال: رأيتهما بعيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ورؤيتي لهما بعينيه: آثر عندي من رؤيتي لهما بعيني فإن بصري قد يطغى ويزيغ بخلاف بصره و اليقين يحمله على الأهوال وركوب الأخطار وهو يأمر بالتقدم دائما فإن لم يقارنه العلم: حمل على المعاطب
و العلم يأمر بالتأخر والإحجام فإن لم يصحبه اليقين قعد بصاحبه عن المكاسب والغنائم والله أعلم
فصل قال صاحب المنازل رحمه الله اليقين: مركب الآخذ في هذا الطريق
وهو غاية درجات العامة وقيل: أول خطوة للخاصة لما كان اليقين هو الذي يحمل السائر إلى الله كما قال أبو سعيد الخراز: العلم ما استعملك واليقين ما حملك سماه مركبا يركبه السائر إلى الله فإنه لولا اليقين ما سار ركب إلى الله ولا ثبت لأحد قدم في السلوك إلا به وإنما جعله آخر درجات العامة: لأنهم إليه ينتهون ثم حكى قول من قال: إنه أول خطوة للخاصة يعني: أنه ليس بمقام لهم وإنما هو مبدأ لسلوكهم فمنه يبتدئون سلوكهم وسيرهم وهذا لأن الخاصة عنده سائرون إلى عين الجمع والفناء في شهود الحقيقة لا تقف بهم دونها همة ولا يعرجون دونها على رسم فكل ما دونها فهو عندهم من مشاهد العامة ومنازلهم ومقاماتهم حتى المحبة وحسبك بجعل اليقين نهاية للعامة وبداية لهم قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: علم اليقين وهو قبول ما ظهر من الحق وقبول ما غاب للحق والوقوف على ما قام بالحق ذكر الشيخ رحمه الله في هذه الدرجة ثلاثة أشياء هي متعلق اليقين وأركانه الأولى: قبول ما ظهر من الحق تعالى والذي ظهر منه سبحانه: أوامره ونواهيه وشرعه ودينه الذي ظهر لنا منه على ألسنة رسله فنتلقاه بالقبول
والانقياد والاذعان والتسليم للربوبية والدخول تحت رقع العبودية الثاني: قبول ما غاب للحق وهو الإيمان بالغيب الذي أخبر به الحق سبحانه على لسان رسله من أمور المعاد وتفصيله والجنة والنار وما قبل ذلك: من الصراط والميزان والحساب وما قبل ذلك: من تشقق السماء وانفطارها وانتثار الكواكب ونسف الجبال وطي العالم وما قبل ذلك: من أمور البرزخ ونعيمه وعذابه فقبول هذا كله إيمانا وتصديقا وإيقانا هو اليقين بحيث لا يخالج القلب فيه شبهة ولا شك ولا تناس ولا غفلة عنه فإنه إن لم يهلك يقينه أفسده وأضعفه الثالث: الوقوف عل ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله وهو علم التوحيد الذي أساسه: إثبات الأسماء والصفات وضده: التعطيل والنفي والتجهم فهذا التوحيد يقابله التعطيل وأما التوحيد القصدي الإرادي الذي هو إخلاص العمل لله وعبادته وحده: فيقابله الشرك والتعطيل شر من الشرك فإن المعطل جاحد للذات أو لكمالها وهو جحد لحقيقة الإلهية فإن ذاتا لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا ترضى ولا تغضب ولا تفعل شيئا وليست داخل العالم ولا خارجه ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة ولا مجانية له ولا مباينة له ولا مجاورة ولا مجاوزة ولا فوق العرش ولا تحت العرش ولا خلفه ولا أمامه ولا عن يمينه ولا عن يساره: سواء هي والعدم والمشرك مقر بالله وصفاته لكن عبد معه غيره فهو خير من المعطل للذات والصفات
فاليقين هو الوقوف على ما قام بالحق من أسمائه وصفاته ونعوت كماله وتوحيده وهذه الثلاثة أشرف علوم الخلائق: علم الأمر والنهي وعلم الأسماء والصفات والتوحيد وعلم المعاد واليوم الآخر والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: عين اليقين وهو المغني بالاستدلال عن
الاستدلال وعن الخبر بالعيان وخرق الشهود حجاب العلم الفرق بين علم اليقين وعين اليقين: كالفرق بين الخبر الصادق والعيان وحق اليقين: فوق هذا وقد مثلت المراتب الثلاثة بمن أخبرك: أن عنده عسلا وأنت لا تشك في صدقه ثم أراك إياه فازددت يقينا ثم ذقت منه فالأول: علم اليقين والثاني: عين اليقين والثالث: حق اليقين فعلمنا الآن بالجنة والنار: علم يقين فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك: عين اليقين فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار: فذلك حينئذ حق اليقين قوله: هو المغني بالاستدلال عن الاستدلال
يريد بالاستدلال: الإدراك والشهود يعني صاحبه قد استغنى به عن طلب الدليل فإنه إنما يطلب الدليل ليحصل له العلم بالمدلول فإذا كان المدلول مشاهدا له وقد أدركه بكشفه فأي حاجة به إلى الاستدلال وهذا معنى الاستغناء عن الخبر بالعيان وأما قوله: وخرق الشهود حجاب العلم فيريد به: أن المعارف التي تحصل لصاحب هذه الدرجة: هي من الشهود الخارق لحجاب العلم فإن العلم حجاب عن الشهود ففي هذه الدرجة يرتفع الحجاب ويفضي إلى المعلوم بحيث يكافح بصيرته وقلبه مكافحة
فصل قال: الدرجة الثالثة: حق اليقين وهو إسفار صبح الكشف ثم الخلاص
من كلفة اليقين ثم الفناء في حق اليقين
اعلم أن هذه الدرجة لا تنال في هذا العالم إلا للرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فإن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى بعينه الجنة والنار وموسى عليه السلام سمع كلام الله منه إليه بلا واسطة وكلمه تكليما وتجلى للجبل وموسى ينظر فجعله دكا هشيما نعم يحصل لنا حق اليقين من مرتبة وهي ذوق ما أخبر به الرسول من حقائق الإيمان المتعلقة بالقلوب وأعمالها فإن القلب إذا باشرها وذاقها صارت في حقه حق يقين وأما في أمور الآخرة والمعاد ورؤية الله جهرة عيانا وسماع كلامه حقيقة بلا واسطة فحظ المؤمن منه في هذه الدار: الإيمان وعلم اليقين وحق اليقين: يتأخر إلى وقت اللقاء ولكن لما كان السالك عنده ينتهي إلى الفناء ويتحقق شهود الحقيقة ويصل إلى عين الجمع قال: حق اليقين: هو إسفار صبح الكشف
يعنى: تحققه وثبوته وغلبة نوره على ظلمة ليل الحجاب فينتقل من طور العلم إلى الاستغراق في الشهود بالفناء عن الرسم بالكلية وقوله: ثم الخلاص من كلفة اليقين يعني: أن اليقين له حقوق يجب على صاحبه أن يؤديها ويقوم بها ويتحمل كلفها ومشاقها فأذا فني في التوحيد حصل له أمور أخرى رفيعة عالية جدا يصير فيها محمولا بعد أن كان حاملا وطائرا بعذ أن كان سائرا فتزول عنه كلفة حمل تلك الحقوق بل يبقى له كالنفس وكالماء للسمك وهذا أمر التحكم فيه إلى الذوق والإحساس فلا تسرع إلى إنكاره وتأمل حال ذلك الصحابي الذي أخذ تمراته وقعد يأكلها على حاجة وجوع وفاقة إليها فلما عاين سوق الشهادة قد قامت ألقى قوته من يده وقال: إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات وألقاها من يده وقاتل حتى قتل وكذلك أحوال الصحابة رضي الله عنهم كانت مطابقة لما أشار إليه
ولكن بقيت نكتة عظيمة وهي موضع السجدة وهي أن فناءهم لم يكن في توحيد الربوبية وشهود الحقيقة التي يشير إليها أرباب الفناء بل في توحيد الإلهية ففنوا بحبه تعالى عن حب ما سواه وبمراده منهم عن مرادهم وحظوظهم فلم يكونوا عاملين على فناء ولا إلا استغراق في الشهود بحيث يفنون به عن مراد محبوبهم منهم بل قد فنوا بمراده عن مرادهم فهم أهل بقاء في فناء وفرق في جمع وكثرة في وحدة وحقيقة كونية في حقيقة دينية
هم القوم لا قوم إلا هم ولولاهم ما اهتدينا السبيلا
فنسبة أحوال من بعدهم الصحيحة الكاملة إلى أحوالهم: كنسبة ما يرشح من الظرف والقربة إلى ما في داخلها وأما الطريق المنحرفة الفاسدة: فسبيل غير سبيلهم والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى