- عز الدينرائع فوق العادة
- الجنس : عدد المساهمات : 670
تاريخ التسجيل : 01/03/2011
العمر : 49
العمل/الترفيه : بحري قديم
المزاج : يا من لجرح كلما سكنته ** لكأ الحشى بمواجع ومآسي // لو انه في الرأس كنت ضمدته ** لكنه في القلب لا في الرأسِ
منزلة (الأنس بالله).
الأربعاء 10 أغسطس 2011, 5:53 am
منزلة الأنس بالله
من منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الأنس بالله
قال صاحب المنارل رحمه الله: وهو روح القرب ولهذا صدر منزلته بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [ البقرة: 186] فاستحضار القلب هذا البر والإحسان واللطف: يوجب قربه من الرب سبحانه وتعالى وقربه منه يوجب له الأنس و الأنس ثمرة الطاعة والمحبة فكل مطيع مستأنس وكل عاص مستوحش كما قيل:
فإن كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنس
والقرب يوجب الأنس والهيبة والمحبة قال صاحب المنازل رحمه الله وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الأنس بالشواهد وهو استحلاء الذكر والتغذى بالسماع والوقوف على الإشارات هذه اللفطه يجرونها في كلامهم أعني لفظة الشواهد ومرادهم بها: أمران أحدهما: شواهد الحقيقة وهي ما يقوم بقلب العبد حتى كأنه يشاهده ويبصره لغلبته عليه فكل ما يستولي على قلب صاحبه ذكره فإنه شاهده فمنهم من يكون شاهده العمل ومنهم من يكون شاهده الذكر ومنهم من يكون شاهده المحبة ومنهم من يكون شاهده الخوف
فالمريد: يأنس بشاهده ويستوحش لفقده والثاني: شاهد الحال وهو الأثر الذي يقوم به ويظهر عليه من عمله وسلوكه وحاله فإن شاهده لابد أن يظهر عليه
ومراد صاحب المنازل: الشاهد الأول الذي يأنس به المريد وهو الحامل له على استحلاء الذكر طلبا لظفره بحصول المذكور فهو يستأنس بالذكر طلبا لاستئناسه بالمذكور ويتغذى بالسماع كما يتغذى الجسم بالطعام والشراب فإن كان محبا صادقا طالبا لله عاملا على مرضاته: كان غذاؤه بالسماع القرآني الذي كان غذاء سادات العارفين من هذه الأمة وأبرها قلوبا وأصحها أحوالا وهم الصحابة رضي الله عنهم
وإن كان منحرفا فاسد الحال ملبوسا عليه مغرورا مخدوعا: كان غذاؤه بالسماع الشيطاني الذي هو قرآن الشيطان المشتمل على محاب النفوس ولذاتها وحظوظها وأصحابه: أبعد الخلق من الله وأغلظهم عنه حجابا وإن كثرت إشاراتهم إليه
وهذا السماع القرآني سماع أهل المعرفة بالله والاستقامة على صراطه المستقيم ويحصل للأذهان الصافية منه معان وإشارات ومعارف وعلوم تتغذى بها القلوب المشرقة بنور الأنس فتجد بها ولها لذة روحانية يصل نعيمها إلى القلوب ولأرواح وربما فاض حتى وصل إلى الأجسام فيجد من اللذة مالم يعهد مثله من اللذات الحسية وللتغذي بالسماع سر لطيف نذكره للطف موضعه
وهو الذي أوقع كثيرا من السالكين في إيثار سماع الأبيات لما رأى فيه من غذاء القلب وقوته نعيمه فلو جئته بألف آية وألف خبر لما أعطاك شطرا من إصغائه وكان ذلك عنده أعظم من الظواهر التي يعارض بها الفلاسفة وأرباب الكلام
اعلم أن الله عز وجل جعل للقلوب نوعين من الغذاء: نوعا من الطعام والشراب الحسي وللقلب منه خلاصته وصفوه ولكل عضو منه بحسب استعداده وقبوله والثاني: غذاء روحاني معنوي خارج عن الطعام والشراب: من السرور والفرح والابتهاج واللذة والعلوم والمعارف وبهذا الغذاء كان سماويا علويا وبالغذاء المشترك كان أرضيا سفليا وقوامه بهذين الغذاءين وله ارتباط بكل واحدة من الحواس الخمس وغذاء يصل إليه منها فله ارتباط بحاسة اللمس ويصل إليه منها غذاء وكذلك حاسة الشم وكذلك حاسة الذوق وكذلك ارتباط بحاستي السمع والبصر: أشد من ارتباطه
بغيرهما ووصول الغذاء منهما إليه أكمل وأقوى من سائر الحواس وانفعاله عنهما أشد من انفعاله عن غيرهما ولهذا تجد في القرآن اقترانه بهما أكثر من اقترانه بغيرهما بل لا يكاد يقرن إلا بهما أو بأحدهما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [ النحل: 78 ] وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [ الأحقاف: 26 ] وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [ الأعراف: 179 ] وقال تعالى في صفة الكفار: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [ البقرة: 171 ] وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [ الحج: 46 ] وهذا كثير جدا في القرآن
لأن تأثره بما يراه ويسمعه: أعظم من تأثره بما يلمسه ويذوقه ويشمه ولأن هذه الثلاثة: هي طرق العلم وهي: السمع والبصر والعقل وتعلق القلب بالسمع وارتباطه به: أشد من تعلقه بالبصر وارتباطه به ولهذا يتأثر بما يسمعه من الملذوذات أعظم مما يتأثر بما يراه من المستحسنات وكذلك في المكروهات سماعا ورؤية ولهذا كان الصحيح من القولين: أن حاسة السمع أفضل من حاسة البصر لشدة تعلقها بالقلب وعظم حاجته إليها وتوقف كماله عليها ووصول العلوم إليه بها وتوقف الهدى على سلامتها
ورجحت طائفة حاسة البصر لكمال مدركها وامتناع الكذب فيه وزوال الريب والشك به ولأنه عين اليقين وغاية مدرك حاسة السمع علم اليقين وعين اليقين أفضل وأكمل من علم اليقين ولأن متعلقها رؤية وجه الرب عز وجل في دار النعيم ولا شيء أعلى وأجل من هذا التعلق
وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين الطائفتين حكما حسنا فقال: المدرك بحاسة السمع أعم وأشمل والمدرك بحاسة البصر: أتم وأكمل فللسمع العموم والشمول والإحاطة بالموجود والمعدوم والحاضر والغائب والحسي والمعنوي وللبصر: التمام والكمال وإذا عرف هذا فهذه الحواس الخمس لها أشباح وأرواح وأرواحها حظ القلب ونصيبه منها
فمن الناس: من ليس لقلبه منها نصيب إلا كنصيب الحيوانات البهيمية منها فهو بمنزلتها وبينه وبينها أول درجة الإنسانية ولهذا شبه الله سبحانه أولئك بالأنعام بل جعلهم أضل فقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [ الفرقان: 44 ] ولهذا نفى الله عن الكفار السمع والبصر والعقول إما لعدم انتفاعهم بها فنزلت منزلة المعدوم وإما لأن النفي توجه إلى أسماع قلوبهم وأبصارها وإدراكها ولهذا يظهر لهم ذلك عند انكشاف حقائق الأمور كقول أصحاب السعير: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [ الملك: 10 ] ومنه في أحد التأويلين قوله تعالى {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [ الأعراف: 198 ] فإنهم كانوا ينظرون إلى صورة النبي صلى الله عليه وسلم بالحواس الظاهرة ولا يبصرون صورة نبوته ومعناها بالحاسة الباطنة التي هي بصر القلب والقول الثاني: أن الضمير عائد على الأصنام ثم فيه قولان أحدهما: أنه على التشبيه أي كأنهم ينظرون إليك ولا أبصار لهم يرونك بها
والثاني: المراد به المقابلة تقول العرب: داري تنظر دارك أي تقابلها وكذلك السمع ثابت لهم وبه قامت الحجة عليهم ومنتف عنهم وهو سمع القلب فإنهم كانوا يسمعون القرآن من حيث السمع الحسي المشترك كالغنم التي لا تسمع إلا نعيق الراعي بها دعاء ونداء ولم يسمعوه بالروح الحقيقي الذي هو روح حاسة السمع التي هي حظ القلب فلو سمعوه من هذه الجهة: لحصلت لهم الحياة الطيبة التي منشؤها من السماع المتصل أثره بالقلب ولزال عنهم الصمم والبكم ولأنقذوا نفوسهم من السعير بمفارقة من عدم السمع والعقل فحصول السمع الحقيقي: مبدأ لظهور آثار الحياة الطيبة التي هي أكمل أنواع الحياة في هذا العالم فإن بها يحصل غذاء القلب ويعتدل فتتم قوته وحياته وسروره ونعيمه وبهجته وإذا فقد غذاءه الصالح: احتاج إلى أن يعتاض عنه بغذاء قبيح خبيث وإذا فسد غذاؤه وخبث: ونقص من حياته وقوته وسروره ونعيمه بحسب ما فسد من غذائه كالبدن إذا فسد غذاؤه نقص فلما كان تعلق السمع الظاهر الحسي بالقلب أشد والمسافة بينهما أقرب من المسافة بين البصر وبينه ولذلك يؤدي آثار ما يتعلق بالسمع الظاهر إلى القلب أسرع مما يؤدي إليه آثار البصر الظاهر ولهذا ربما غشي على الإنسان إذا سمع كلاما يسره أو يسؤه أو صوتا لذيذا طيبا مطربا مناسبا ولا يكاد يحصل له ذلك من رؤية الأشياء المستحسنة بالبصر الظاهر وقد يكون هذا المسموع شديد التأثير في القلب ولا يشعر به صاحبه لاشتغاله بغيره ولمباينة ظاهره لباطنه ذلك الوقت فإذا حصل له نوع تجرد ورياضة: ظهرت قوة ذلك التأثير والتأثر فكلما تجردت الروح والقلب وانقطعتا عن علائق البدن كان حظهما من ذلك السماع أوفى وتأثرهما به أقوى فإن كان المسموع معنى شريفا بصوت لذيذ: حصل للقلب حظه ونصيبه من
إدراك المعنى وابتهج به أتم ابتهاج على حسب إدراكه له وللروح حظها ونصيبها من لذة الصوت ونغمته وحسنه فابتهجت به فتضاعف اللذة ويتم الابتهاج ويحصل الارتياح حتى ربما فاض على البدن والجوارح وعلى الجليس
وهذا لا يحصل على الكمال في هذا العالم ولا يحصل إلا عند سماع كلام الله فإذا تجردت الروح وكانت مستعدة وباشر القلب روح المعنى وأقبل بكليته على المسموع فألقى السمع وهو شهيد وساعده طيب صوت القارىء: كاد القلب يفارق هذا العالم ويلج عالما آخر ويجد له لذة وحالة لا يعهدها في شيء غيره ألبتة وذلك رقيقة من حال أهل الجنة في الجنة
فيا له من غذاء ما أصلحه وما أنفعه وحرام على قلب قد ترب على غذاء السماع الشيطاني: أن يجد شيئا من ذلك في سماع القرآن بل إن حصل له نوع لذة فهو من قبل الصوت المشترك لا من قبل المعنى الخاص وليس في نعيم أهل الجنة أعلى من رؤيتهم وجه الله محبوبهم سبحانه وتعالى عيانا وسماع كلامه منه وذكر عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب السنة أثرا لا يحضرني الآن: هل هو موقوف أو مرفوع: إذا سمع الناس القرآن يوم القيامة من الرحمن عز وجل فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك وإذا امتلأ القلب بشيء وارتفعت المباينة الشديدة بين الظاهر والباطن: أدت الأذن إلى القلب من المسموع ما يناسبه وإن لم يدل عليه ذلك المسموع ولا قصده المتكلم ولا يختص ذلك بالكلام الدال على معنى بل قد يقع في الأصوات المجردة قال القشيري: سمعت أبا عبدالله السلمي يقول: دخلت على أبي عثمان المغربي ورجل يستقي الماء من البئر على بكرة فقال: يا أبا عبدالرحمن أتدري
إيش تقول هذه البكرة فقلت: لا فقال تقول: الله الله ومثل ذلك كثير كما سمع أبو سليمان الدمشقي من المنادي: يا سعتر بري: اسع تر بري
وهذا السماع الروحاني تبع لحقيقة القلب ومادته منه فالاتحاد به يظن به السامع: أنه أدرك ذلك المعنى لا محالة من الصوت الخارجي وسبب ذلك اتحاد السمع بالقلب وأكمل السماع: سماع من يسمع بالله ما هو مسموع من الله وهو كلامه وهو سماع المحبين المحبوبين كما في الحديث الذي في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال:"ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي"والقلب يتأثر بالسماع بحسب ما فيه من المحبة فإذا امتلأ من محبة الله وسمع كلام محبوبه أي بمصاحبته وحضوره في قلبه فله من سماعه هذا شأن ولغيره شأن آخر والله أعلم
فصل والثاني على ثلاثة أقسام: أحدها: من اتصف قلبه بصفات نفسه بحيث
صار قلبه نفسا محضة
فغلبت عليه آفات الشهوات ودعوات الهوى فهذا حظه من السماع: كحظ البهائم لا يسمع إلا دعاء ونداء والفرق الذي بينها وبينه: غير طائل القسم الثاني: من اتصفت نفسه بصفات قلبه فصارت نفسه قلبا محضا فغلبت عليه المعرفة والمحبة والعقل واللب وعشق صفات الكمال فاستنارت نفسه بنور القلب واطمأنت إلى ربها وقرت عينها بعبوديته وصار نعيمها في حبه وقربه فهذا حظه من السماع مثل أو قريب من حظ الملائكة وسماعه غذاء قلبه وروحه وقرة عينه ونعيمه من الدنيا ورياضه التي يسرح فيها وحياته التي بها قوامه وإلى هذا المعنى قصد أرباب سماع القصائد والأبيات ولكن أخطأوا الطريق وأخذوا عن الدرب شمالا ووراء القسم الثالث: من له منزلة بين منزلتين وقلبه باق على فطرته الأولى ولكن ما تصرف في نفسه تصرفا أحالها إليه وأزال به رسومها وجلا عنه ظلمتها ولا قويت النفس على القلب بإحالته إليها وتصرفت فيه تصرفا أزالت عنه نوره وصحته وفطرته فبين القلب والنفس منازلات ووقائع والحرب بينهما دول وسجال تدال النفس عليه تارة ويدال عليها تارة فهذا حظه من السماع: حظ بين الحظين ونصيبه منه بين النصيبين فإن صادفه وقت دولة القلب: كان حظه منه قويا وإن صادفه وقت دولة النفس: كان ضعيفا
ومن ههنا يقع التفاوت من الناس في الفقه عن الله والفهم عنه والابتهاج والنعيم بسماع كلامه وصاحب هذه الحال في حال سماعه يشتغل القلب بالحرب بينه وبين النفس فيفوته من روح المسموع ونعيمه ولذته بحسب اشتغاله عنه بالمحاربة ولا سبيل له إلى حصول ذلك بتمامه حتى تضع الحرب أوزارها وربما صادفه في حال السماع وارد حق أو الظفر بمعنى بديع لا يقدر فكره على صيده كل وقت فيغيب به ويستغرق فيه عما يأتي بعده فيعجز عن صيد تلك المعاني ويدهشه ازدحامها فيبقى قلبه باهتا كما يحكى أن بعض العرب: أرسل صائدا له على صيد فخرج الصيد عليه من أمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله فوقف باهتا ينظر يمينا وشمالا ولم يصطد شيئا فقال
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
فوظيفته في مثل هدا الحال: أن يفنى عن وارده ويعلق قلبه بالمتكلم وكأنه يسمع كلامه منه ويجعل قلبه نهرا لجريان معاينة ويفرغه من سوى فهم المراد وينصب إليه انصبابا يتلقى فيه معاينه كتلقى المحب للأحباب القادمين عليه لا يشغله حبيب منهم عن حبيب بل يعطي كل قادم حقه وكتلقي الضيوف والزوار وهذا إنما يكون مع سعة القلب وقوة الاستعداد وكمال الحضور فإذا سمع خطاب الترغيب والتشويق واللطف والإحسان: لا يفنى به عما يجيء بعده من خطاب التخويف والترهيب والعدل بل يسمع الخطاب الثاني مستصحبا لحكم الخطاب الأول ويمزج هذا بهذا ويسير بهما ومعهما جميعا عاكفا بقلبه على المتكلم وصفاته سبحانه وهذا سير في الله وهو نوع آخر أعلى وأرفع من مجرد المسير إليه ولا ينقطع بذلك سيره إليه بل يدرج سيره فان سير القلب في معاني أسمائه وصفاته وتوحيده ومعرفته
ومتى بقيت للقلب في ذلك ملكة واشتد تعلقه به: لم تحجبه معانى المسموع وصفات المتكلم بعضها عن بعض ولكن في الابتداء يعسر عليه ذلك وفي التوسط يهون عليه ولا انتهاء ههنا ألبته والله المستعان فهذه كلمات تشير الى معاني سماع أهل المعرفة والإيمان والأحوال المستقيمة وأما السماع الشيطاني: فبالضد من ذلك وهو مشتمل على أكثر من مائة مفسدة ولولا خوف الإطالة لسقناها مفصلة
وسنفرد لها مصنفا مستقلا إن شاء الله فهذا ما يتعلق بقوله: إن من الأنس بالشواهد: التغذي بالسماع وقوله: والوقوف على الإشارات الإشارات هي المعاني التي تشير إلى الحقيقة من بعد ومن وراء حجاب وهي تارة تكون من مسموع وتارة تكون من مرئي وتارة تكون من معقول وقد تكون من الحواس كلها فالإشارات: من جنس الأدلة والأعلام وسببها: صفاء يحصل بالجمعية فيلطف به الحس والذهن فيستيقظ لإدراك أمور لطيفة لا يكشف حس غيره وفهمه عن إدراكها وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الصحيح منها: ما يدل عليه اللفظ بإشارته من باب قياس الأولى قلت: مثاله قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [ الواقعة: 79 ] قال: والصحيح في الآية أن المراد به: الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة منها: أنه وصفه بأنه مكنون و المكنون المستور عن العيون وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة
ومنها: أنه قال: لا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة ولو أراد المتوضئين لقال: لا يمسه إلا المتطهرون كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [ البقرة: 222 ] فالملائكة مطهرون والمؤمنون متطهرون ومنها: أن هذا إخبار ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه بالجزم والأصل في الخبر: أن يكون خبرا صورة ومعنى ومنها: أن هذا رد على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن فأخبر تعالى: أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين ولا وصول لها إليه كما قال تعالى في آية الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [ الشعراء: 210، 211] وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة ومنها: أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} قال مالك في موطئه: أحسن ما سمعت في تفسير قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس ومنها: أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات الصانع والرد على الكفار وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي وهو حكم مس المحدث المصحف ومنها: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس: لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم: أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان ولا ينال منه ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: لكن تدل
الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون لكرامتها على الله فهذه الصحف أولى أن لا يمسها إلا طاهر
وسمعته يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة" إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت فكيف تلج معرفة الله عز وجل ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه في قلب ممتلىء بكلاب الشهوات وصورها فهذا من إشارة اللفظ الصحيحة
ومن هذا: أن طهارة الثوب الطاهر والبدن إذا كانت شرطا في صحة الصلاة والاعتداد بها فإذا أخل بها كانت فاسدة فكيف إذا كان القلب نجسا ولم يطهره صاحبه فكيف يعتد له بصلاته وإن أسقطت القضاء وهل طهارة الظاهر إلا تكميل لطهارة الباطن ومن هذا: أن استقبال القبلة في الصلاة شرط لصحتها وهي بيت الرب فتوجه المصلي إليها ببدنه وقالبه شرط فكيف تصح صلاة من لم يتوجه بقلبه إلى رب القبلة والبدن بل وجه بدنه إلى البيت ووجه قلبه إلى غير رب البيت وأمثال ذلك من الإشارات الصحيحة التي لا تنال إلا بصفاء الباطن وصحة البصيرة وحسن التأمل والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: الأنس بنور الكشف وهو أنس شاخص عن الأنس
الأول تشوبه صولة الهيمان ويضربه موج الفناء وهو الذي غلب قوما على عقولهم وسلب قوما طاقة الاصطبار وحل عنهم قيود العلم وفي هذا ورد الخبر بهذا الدعاء: أسألك شوقا إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة
يجوز أن تكون الباء في قوله: بنور الكشف باء السبية أو باء الإلصاق فإن كانت باء السببية: كان المعنى: الأنس الحاصل بسبب نور الكشف وإن كانت باء الإلصاق كان المعنى: الأنس المتلبس بنور الكشف فإن قلت: ما الفرق بين الأنس ونور الكشف حتى يكون أحدهما سببا للآخر أو متلبسا به قلت: الفرق بينهما: أن نور الكشف من باب المعارف وانكشاف الحقيقة للقلب وأما الأنس: فمن باب القرب والدنو والسكون إلى من يأنس به والطمأنينة إليه فضده: الوحشة وضد نور الكشف: ظلمة الحجاب وقوله: شاخص عن الأنس الأول أي مرتفع عنه وأعلى منه قوله: تشوبه صولة الهيمان
وذلك: لأن هذا الأنس المذكور يكون مبدؤه الكشف عن أسماء الصفات التي يحصل عنها الأنس ويتعلق بها كاسم الجميل والبر واللطيف والودود والحليم والرحيم ونحوها ثم يقوى التعلق بها إلى أن يستغرق العقل فيما زجه نوع من الأسماء فيقهر العقل بصولته
و الهيمان هو الحركة إلى كل جهة بسبب الحيرة والدهشة وذلك إنما يكون مع نوع عدم تمييز وقوة إرادة قاهرة لا يملك صاحبها ضبطها وقوله: ويضربه موج الفناء أي إن صاحب هذا الأنس: يطالع مبادىء الفناء محيطة به فهي تقلبه كما يقلب الموج الغريق وهذا قبل استيلاء سلطان الفناء على وجوده وقوله: وهو الذي غلب قوما على عقولهم أي سلبهم إياها لأنهم شاهدوا شيئا فوق مدارك العقول وفوق كل
مدرك بالحواس الظاهرة والباطنة ولا إلف لهم به فأوجبت قوة المشاهدة والوارد وضعف المحل والحامل: غلبته على العقل والكامل من القوم يثبت لذلك ولا يتحرك بل يبقى كأنه جبل وتلا الجنيد في مثل هذه الحال وقد قيل له أما يغيرك ما تسمع فتلا {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [ النمل: 88 ] وبعضهم تلا في مثل ذلك: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [ الكهف: 18 ] وقوم أقوى تمكينا من هؤلاء: لم يغلبهم على عقولهم بل سلبهم طاقة صبرهم فبدا منهم ما ينافي الصبر وأما قوله: وحل عنهم قيود العلم فكلام لابد من تأويله وتكلف وجه يصححه وأحسن ما يحمل عليه: أن العلم يقيد صاحبه والمعرفة تطلقه وتوسع بطانه وتريه حقائق الأشياء فتزول عنه التقيدات التي كانت حاصلة بسبب خفاء نور المعرفة وكشفها عليه فإن العارف صاحب ضياء الكشف أوسع بطانا وقلبا وأعظم إطلاقا بلا شك من صاحب العلم ونسبته إليه كنسبة صاحب العلم إلى الجاهل فكما أن العالم أوسع بطانا من الجاهل وله إطلاق بحسب علمه فالعارف بما معه من روح العلم وضياء الكشف ونوره هو أكثر إطلاقا وأوسع بطانا من صاحب العلم فيتقيد العالم بظواهر العلم وأحكامه والعارف لا يراها قيودا ومن ههنا تزندق من تزندق وظن أنه إذا لاحت له حقائقها وبواطنها: خلع قيود ظواهرها ورسومها اشتغالا بالمقصود عن الوسيلة وبالحقيقة عن الرسم فهؤلاء هم المقطوعون عن الله القطاع لطريق الله وهم معاطب الطريق وآفاتها واتفق أن العارفين تكلموا في الحقائق وأمروا بالانتقال من الرسوم
والظواهر إليها وأن لا يقف عندها فظن هؤلاء الزنادقة: أنهم جوزوا خلعها والانحلال منها ولا ريب أن من جوز ذلك: فهو مثل هؤلاء والله يركم الخبيث بعضه على بعض فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون فصاحب المنازل: أشار إلى المعنى الحق الصحيح كما أشار إليه شيوخ القوم
وأما استدلاله بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة فليس مطابقا لما ذكره في هذه الدرجة فأين طلب الشوق إلى لقائه الباعث على كمال الاستعداد وعلى خفة أعباء السير والمزيل لكل فتور والحامل على كل صدق وإخلاص وإنابة وصحة معاملة إلى أمر مشوب بصولة الهيمان تضربه أمواج الفناء بحيث غلب قوما على عقولهم وسلب قوما صبرهم بحيث صيرهم في عالم الفناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يكن ليسأل حالة الفناء قط وإنما سأل شوقا موجبا للبقاء مصاحبا له طيب الحياة وقرة العين ولذة القلب وبهجة الروح
وصاحب المنازل كأنه فهم منه اشتياقه إلى المشاهدة من غير غلبة على عقل ولا فقد لاصطبار ولهذا قال: من غير ضراء مضرة وهي الغلبة على العقل ولا فتنة مضلة وهي مفارقة أحكام العلم
وهذا غايته: أن يؤخذ من إشارة الحديث على عادة القوم وأما أن يكون هو نفس المراد: فلا وإنما المسئول: أن يهب له شوقا إلى لقائه مصاحبا للعافية والهداية فلا تصحبه فتنة ولا محنة وهذا من أجل العطايا والمواهب فإن كثيرا ممن يحصل له هذا لا يناله إلا بعد امتحان واختبار: هل يصلح أم لا ومن لم يمتحن ولم يختبر فأكثرهم لم يؤهل لهذا فتضمن هذا الدعاء: حصول ذلك والتأهيل له مع كمال العافية بلا محنة والهداية بلا فتنة وبالله التوفيق والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثالثة: أنس اضمحلال في شهود الحضرة لا يعبر عن
غيبه ولا يشار إلى حده ولا يوقف على كنهه الاضمحلال الانعدام و شهود الحضرة هو مشاهدة الحقيقة والفناء في ذلك الشهود قوله: ولا يعبر عن غيبه إلى آخره حاصله: أن هذا أمر وراء العبارة لا تناله العبارة ولا يحاط به عينا ولا حدا ولا كنها ولا حقيقة فإن حقيقته: تستغرق العبارة والإشارة والدلالة وفي وصفه يقول قائلهم:
فألقوا حبال مراسيهم فغطاهم البحر ثم انطبق
وههنا إنما حوالة القوم على الذوق وإشارتهم: إلى الفناء الذي يصطلم المشير وإشارته والمعبر وعبارته مع ظهور سلطان الحقيقة التي هي فوق الإشارة والعبارة والدلالة والله سبحانه وتعالى أعلم
من منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الأنس بالله
قال صاحب المنارل رحمه الله: وهو روح القرب ولهذا صدر منزلته بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [ البقرة: 186] فاستحضار القلب هذا البر والإحسان واللطف: يوجب قربه من الرب سبحانه وتعالى وقربه منه يوجب له الأنس و الأنس ثمرة الطاعة والمحبة فكل مطيع مستأنس وكل عاص مستوحش كما قيل:
فإن كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنس
والقرب يوجب الأنس والهيبة والمحبة قال صاحب المنازل رحمه الله وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الأنس بالشواهد وهو استحلاء الذكر والتغذى بالسماع والوقوف على الإشارات هذه اللفطه يجرونها في كلامهم أعني لفظة الشواهد ومرادهم بها: أمران أحدهما: شواهد الحقيقة وهي ما يقوم بقلب العبد حتى كأنه يشاهده ويبصره لغلبته عليه فكل ما يستولي على قلب صاحبه ذكره فإنه شاهده فمنهم من يكون شاهده العمل ومنهم من يكون شاهده الذكر ومنهم من يكون شاهده المحبة ومنهم من يكون شاهده الخوف
فالمريد: يأنس بشاهده ويستوحش لفقده والثاني: شاهد الحال وهو الأثر الذي يقوم به ويظهر عليه من عمله وسلوكه وحاله فإن شاهده لابد أن يظهر عليه
ومراد صاحب المنازل: الشاهد الأول الذي يأنس به المريد وهو الحامل له على استحلاء الذكر طلبا لظفره بحصول المذكور فهو يستأنس بالذكر طلبا لاستئناسه بالمذكور ويتغذى بالسماع كما يتغذى الجسم بالطعام والشراب فإن كان محبا صادقا طالبا لله عاملا على مرضاته: كان غذاؤه بالسماع القرآني الذي كان غذاء سادات العارفين من هذه الأمة وأبرها قلوبا وأصحها أحوالا وهم الصحابة رضي الله عنهم
وإن كان منحرفا فاسد الحال ملبوسا عليه مغرورا مخدوعا: كان غذاؤه بالسماع الشيطاني الذي هو قرآن الشيطان المشتمل على محاب النفوس ولذاتها وحظوظها وأصحابه: أبعد الخلق من الله وأغلظهم عنه حجابا وإن كثرت إشاراتهم إليه
وهذا السماع القرآني سماع أهل المعرفة بالله والاستقامة على صراطه المستقيم ويحصل للأذهان الصافية منه معان وإشارات ومعارف وعلوم تتغذى بها القلوب المشرقة بنور الأنس فتجد بها ولها لذة روحانية يصل نعيمها إلى القلوب ولأرواح وربما فاض حتى وصل إلى الأجسام فيجد من اللذة مالم يعهد مثله من اللذات الحسية وللتغذي بالسماع سر لطيف نذكره للطف موضعه
وهو الذي أوقع كثيرا من السالكين في إيثار سماع الأبيات لما رأى فيه من غذاء القلب وقوته نعيمه فلو جئته بألف آية وألف خبر لما أعطاك شطرا من إصغائه وكان ذلك عنده أعظم من الظواهر التي يعارض بها الفلاسفة وأرباب الكلام
اعلم أن الله عز وجل جعل للقلوب نوعين من الغذاء: نوعا من الطعام والشراب الحسي وللقلب منه خلاصته وصفوه ولكل عضو منه بحسب استعداده وقبوله والثاني: غذاء روحاني معنوي خارج عن الطعام والشراب: من السرور والفرح والابتهاج واللذة والعلوم والمعارف وبهذا الغذاء كان سماويا علويا وبالغذاء المشترك كان أرضيا سفليا وقوامه بهذين الغذاءين وله ارتباط بكل واحدة من الحواس الخمس وغذاء يصل إليه منها فله ارتباط بحاسة اللمس ويصل إليه منها غذاء وكذلك حاسة الشم وكذلك حاسة الذوق وكذلك ارتباط بحاستي السمع والبصر: أشد من ارتباطه
بغيرهما ووصول الغذاء منهما إليه أكمل وأقوى من سائر الحواس وانفعاله عنهما أشد من انفعاله عن غيرهما ولهذا تجد في القرآن اقترانه بهما أكثر من اقترانه بغيرهما بل لا يكاد يقرن إلا بهما أو بأحدهما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [ النحل: 78 ] وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [ الأحقاف: 26 ] وقال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [ الأعراف: 179 ] وقال تعالى في صفة الكفار: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [ البقرة: 171 ] وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [ الحج: 46 ] وهذا كثير جدا في القرآن
لأن تأثره بما يراه ويسمعه: أعظم من تأثره بما يلمسه ويذوقه ويشمه ولأن هذه الثلاثة: هي طرق العلم وهي: السمع والبصر والعقل وتعلق القلب بالسمع وارتباطه به: أشد من تعلقه بالبصر وارتباطه به ولهذا يتأثر بما يسمعه من الملذوذات أعظم مما يتأثر بما يراه من المستحسنات وكذلك في المكروهات سماعا ورؤية ولهذا كان الصحيح من القولين: أن حاسة السمع أفضل من حاسة البصر لشدة تعلقها بالقلب وعظم حاجته إليها وتوقف كماله عليها ووصول العلوم إليه بها وتوقف الهدى على سلامتها
ورجحت طائفة حاسة البصر لكمال مدركها وامتناع الكذب فيه وزوال الريب والشك به ولأنه عين اليقين وغاية مدرك حاسة السمع علم اليقين وعين اليقين أفضل وأكمل من علم اليقين ولأن متعلقها رؤية وجه الرب عز وجل في دار النعيم ولا شيء أعلى وأجل من هذا التعلق
وحكم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين الطائفتين حكما حسنا فقال: المدرك بحاسة السمع أعم وأشمل والمدرك بحاسة البصر: أتم وأكمل فللسمع العموم والشمول والإحاطة بالموجود والمعدوم والحاضر والغائب والحسي والمعنوي وللبصر: التمام والكمال وإذا عرف هذا فهذه الحواس الخمس لها أشباح وأرواح وأرواحها حظ القلب ونصيبه منها
فمن الناس: من ليس لقلبه منها نصيب إلا كنصيب الحيوانات البهيمية منها فهو بمنزلتها وبينه وبينها أول درجة الإنسانية ولهذا شبه الله سبحانه أولئك بالأنعام بل جعلهم أضل فقال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [ الفرقان: 44 ] ولهذا نفى الله عن الكفار السمع والبصر والعقول إما لعدم انتفاعهم بها فنزلت منزلة المعدوم وإما لأن النفي توجه إلى أسماع قلوبهم وأبصارها وإدراكها ولهذا يظهر لهم ذلك عند انكشاف حقائق الأمور كقول أصحاب السعير: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [ الملك: 10 ] ومنه في أحد التأويلين قوله تعالى {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [ الأعراف: 198 ] فإنهم كانوا ينظرون إلى صورة النبي صلى الله عليه وسلم بالحواس الظاهرة ولا يبصرون صورة نبوته ومعناها بالحاسة الباطنة التي هي بصر القلب والقول الثاني: أن الضمير عائد على الأصنام ثم فيه قولان أحدهما: أنه على التشبيه أي كأنهم ينظرون إليك ولا أبصار لهم يرونك بها
والثاني: المراد به المقابلة تقول العرب: داري تنظر دارك أي تقابلها وكذلك السمع ثابت لهم وبه قامت الحجة عليهم ومنتف عنهم وهو سمع القلب فإنهم كانوا يسمعون القرآن من حيث السمع الحسي المشترك كالغنم التي لا تسمع إلا نعيق الراعي بها دعاء ونداء ولم يسمعوه بالروح الحقيقي الذي هو روح حاسة السمع التي هي حظ القلب فلو سمعوه من هذه الجهة: لحصلت لهم الحياة الطيبة التي منشؤها من السماع المتصل أثره بالقلب ولزال عنهم الصمم والبكم ولأنقذوا نفوسهم من السعير بمفارقة من عدم السمع والعقل فحصول السمع الحقيقي: مبدأ لظهور آثار الحياة الطيبة التي هي أكمل أنواع الحياة في هذا العالم فإن بها يحصل غذاء القلب ويعتدل فتتم قوته وحياته وسروره ونعيمه وبهجته وإذا فقد غذاءه الصالح: احتاج إلى أن يعتاض عنه بغذاء قبيح خبيث وإذا فسد غذاؤه وخبث: ونقص من حياته وقوته وسروره ونعيمه بحسب ما فسد من غذائه كالبدن إذا فسد غذاؤه نقص فلما كان تعلق السمع الظاهر الحسي بالقلب أشد والمسافة بينهما أقرب من المسافة بين البصر وبينه ولذلك يؤدي آثار ما يتعلق بالسمع الظاهر إلى القلب أسرع مما يؤدي إليه آثار البصر الظاهر ولهذا ربما غشي على الإنسان إذا سمع كلاما يسره أو يسؤه أو صوتا لذيذا طيبا مطربا مناسبا ولا يكاد يحصل له ذلك من رؤية الأشياء المستحسنة بالبصر الظاهر وقد يكون هذا المسموع شديد التأثير في القلب ولا يشعر به صاحبه لاشتغاله بغيره ولمباينة ظاهره لباطنه ذلك الوقت فإذا حصل له نوع تجرد ورياضة: ظهرت قوة ذلك التأثير والتأثر فكلما تجردت الروح والقلب وانقطعتا عن علائق البدن كان حظهما من ذلك السماع أوفى وتأثرهما به أقوى فإن كان المسموع معنى شريفا بصوت لذيذ: حصل للقلب حظه ونصيبه من
إدراك المعنى وابتهج به أتم ابتهاج على حسب إدراكه له وللروح حظها ونصيبها من لذة الصوت ونغمته وحسنه فابتهجت به فتضاعف اللذة ويتم الابتهاج ويحصل الارتياح حتى ربما فاض على البدن والجوارح وعلى الجليس
وهذا لا يحصل على الكمال في هذا العالم ولا يحصل إلا عند سماع كلام الله فإذا تجردت الروح وكانت مستعدة وباشر القلب روح المعنى وأقبل بكليته على المسموع فألقى السمع وهو شهيد وساعده طيب صوت القارىء: كاد القلب يفارق هذا العالم ويلج عالما آخر ويجد له لذة وحالة لا يعهدها في شيء غيره ألبتة وذلك رقيقة من حال أهل الجنة في الجنة
فيا له من غذاء ما أصلحه وما أنفعه وحرام على قلب قد ترب على غذاء السماع الشيطاني: أن يجد شيئا من ذلك في سماع القرآن بل إن حصل له نوع لذة فهو من قبل الصوت المشترك لا من قبل المعنى الخاص وليس في نعيم أهل الجنة أعلى من رؤيتهم وجه الله محبوبهم سبحانه وتعالى عيانا وسماع كلامه منه وذكر عبدالله بن الإمام أحمد في كتاب السنة أثرا لا يحضرني الآن: هل هو موقوف أو مرفوع: إذا سمع الناس القرآن يوم القيامة من الرحمن عز وجل فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك وإذا امتلأ القلب بشيء وارتفعت المباينة الشديدة بين الظاهر والباطن: أدت الأذن إلى القلب من المسموع ما يناسبه وإن لم يدل عليه ذلك المسموع ولا قصده المتكلم ولا يختص ذلك بالكلام الدال على معنى بل قد يقع في الأصوات المجردة قال القشيري: سمعت أبا عبدالله السلمي يقول: دخلت على أبي عثمان المغربي ورجل يستقي الماء من البئر على بكرة فقال: يا أبا عبدالرحمن أتدري
إيش تقول هذه البكرة فقلت: لا فقال تقول: الله الله ومثل ذلك كثير كما سمع أبو سليمان الدمشقي من المنادي: يا سعتر بري: اسع تر بري
وهذا السماع الروحاني تبع لحقيقة القلب ومادته منه فالاتحاد به يظن به السامع: أنه أدرك ذلك المعنى لا محالة من الصوت الخارجي وسبب ذلك اتحاد السمع بالقلب وأكمل السماع: سماع من يسمع بالله ما هو مسموع من الله وهو كلامه وهو سماع المحبين المحبوبين كما في الحديث الذي في صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال:"ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي"والقلب يتأثر بالسماع بحسب ما فيه من المحبة فإذا امتلأ من محبة الله وسمع كلام محبوبه أي بمصاحبته وحضوره في قلبه فله من سماعه هذا شأن ولغيره شأن آخر والله أعلم
فصل والثاني على ثلاثة أقسام: أحدها: من اتصف قلبه بصفات نفسه بحيث
صار قلبه نفسا محضة
فغلبت عليه آفات الشهوات ودعوات الهوى فهذا حظه من السماع: كحظ البهائم لا يسمع إلا دعاء ونداء والفرق الذي بينها وبينه: غير طائل القسم الثاني: من اتصفت نفسه بصفات قلبه فصارت نفسه قلبا محضا فغلبت عليه المعرفة والمحبة والعقل واللب وعشق صفات الكمال فاستنارت نفسه بنور القلب واطمأنت إلى ربها وقرت عينها بعبوديته وصار نعيمها في حبه وقربه فهذا حظه من السماع مثل أو قريب من حظ الملائكة وسماعه غذاء قلبه وروحه وقرة عينه ونعيمه من الدنيا ورياضه التي يسرح فيها وحياته التي بها قوامه وإلى هذا المعنى قصد أرباب سماع القصائد والأبيات ولكن أخطأوا الطريق وأخذوا عن الدرب شمالا ووراء القسم الثالث: من له منزلة بين منزلتين وقلبه باق على فطرته الأولى ولكن ما تصرف في نفسه تصرفا أحالها إليه وأزال به رسومها وجلا عنه ظلمتها ولا قويت النفس على القلب بإحالته إليها وتصرفت فيه تصرفا أزالت عنه نوره وصحته وفطرته فبين القلب والنفس منازلات ووقائع والحرب بينهما دول وسجال تدال النفس عليه تارة ويدال عليها تارة فهذا حظه من السماع: حظ بين الحظين ونصيبه منه بين النصيبين فإن صادفه وقت دولة القلب: كان حظه منه قويا وإن صادفه وقت دولة النفس: كان ضعيفا
ومن ههنا يقع التفاوت من الناس في الفقه عن الله والفهم عنه والابتهاج والنعيم بسماع كلامه وصاحب هذه الحال في حال سماعه يشتغل القلب بالحرب بينه وبين النفس فيفوته من روح المسموع ونعيمه ولذته بحسب اشتغاله عنه بالمحاربة ولا سبيل له إلى حصول ذلك بتمامه حتى تضع الحرب أوزارها وربما صادفه في حال السماع وارد حق أو الظفر بمعنى بديع لا يقدر فكره على صيده كل وقت فيغيب به ويستغرق فيه عما يأتي بعده فيعجز عن صيد تلك المعاني ويدهشه ازدحامها فيبقى قلبه باهتا كما يحكى أن بعض العرب: أرسل صائدا له على صيد فخرج الصيد عليه من أمامه وخلفه وعن يمينه وعن شماله فوقف باهتا ينظر يمينا وشمالا ولم يصطد شيئا فقال
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
فوظيفته في مثل هدا الحال: أن يفنى عن وارده ويعلق قلبه بالمتكلم وكأنه يسمع كلامه منه ويجعل قلبه نهرا لجريان معاينة ويفرغه من سوى فهم المراد وينصب إليه انصبابا يتلقى فيه معاينه كتلقى المحب للأحباب القادمين عليه لا يشغله حبيب منهم عن حبيب بل يعطي كل قادم حقه وكتلقي الضيوف والزوار وهذا إنما يكون مع سعة القلب وقوة الاستعداد وكمال الحضور فإذا سمع خطاب الترغيب والتشويق واللطف والإحسان: لا يفنى به عما يجيء بعده من خطاب التخويف والترهيب والعدل بل يسمع الخطاب الثاني مستصحبا لحكم الخطاب الأول ويمزج هذا بهذا ويسير بهما ومعهما جميعا عاكفا بقلبه على المتكلم وصفاته سبحانه وهذا سير في الله وهو نوع آخر أعلى وأرفع من مجرد المسير إليه ولا ينقطع بذلك سيره إليه بل يدرج سيره فان سير القلب في معاني أسمائه وصفاته وتوحيده ومعرفته
ومتى بقيت للقلب في ذلك ملكة واشتد تعلقه به: لم تحجبه معانى المسموع وصفات المتكلم بعضها عن بعض ولكن في الابتداء يعسر عليه ذلك وفي التوسط يهون عليه ولا انتهاء ههنا ألبته والله المستعان فهذه كلمات تشير الى معاني سماع أهل المعرفة والإيمان والأحوال المستقيمة وأما السماع الشيطاني: فبالضد من ذلك وهو مشتمل على أكثر من مائة مفسدة ولولا خوف الإطالة لسقناها مفصلة
وسنفرد لها مصنفا مستقلا إن شاء الله فهذا ما يتعلق بقوله: إن من الأنس بالشواهد: التغذي بالسماع وقوله: والوقوف على الإشارات الإشارات هي المعاني التي تشير إلى الحقيقة من بعد ومن وراء حجاب وهي تارة تكون من مسموع وتارة تكون من مرئي وتارة تكون من معقول وقد تكون من الحواس كلها فالإشارات: من جنس الأدلة والأعلام وسببها: صفاء يحصل بالجمعية فيلطف به الحس والذهن فيستيقظ لإدراك أمور لطيفة لا يكشف حس غيره وفهمه عن إدراكها وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الصحيح منها: ما يدل عليه اللفظ بإشارته من باب قياس الأولى قلت: مثاله قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [ الواقعة: 79 ] قال: والصحيح في الآية أن المراد به: الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة منها: أنه وصفه بأنه مكنون و المكنون المستور عن العيون وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة
ومنها: أنه قال: لا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة ولو أراد المتوضئين لقال: لا يمسه إلا المتطهرون كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [ البقرة: 222 ] فالملائكة مطهرون والمؤمنون متطهرون ومنها: أن هذا إخبار ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه بالجزم والأصل في الخبر: أن يكون خبرا صورة ومعنى ومنها: أن هذا رد على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن فأخبر تعالى: أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين ولا وصول لها إليه كما قال تعالى في آية الشعراء: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [ الشعراء: 210، 211] وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة ومنها: أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} قال مالك في موطئه: أحسن ما سمعت في تفسير قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس ومنها: أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات الصانع والرد على الكفار وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي وهو حكم مس المحدث المصحف ومنها: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس: لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم: أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان ولا ينال منه ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: لكن تدل
الآية بإشارتها على أنه لا يمس المصحف إلا طاهر لأنه إذا كانت تلك الصحف لا يمسها إلا المطهرون لكرامتها على الله فهذه الصحف أولى أن لا يمسها إلا طاهر
وسمعته يقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة" إذا كانت الملائكة المخلوقون يمنعها الكلب والصورة عن دخول البيت فكيف تلج معرفة الله عز وجل ومحبته وحلاوة ذكره والأنس بقربه في قلب ممتلىء بكلاب الشهوات وصورها فهذا من إشارة اللفظ الصحيحة
ومن هذا: أن طهارة الثوب الطاهر والبدن إذا كانت شرطا في صحة الصلاة والاعتداد بها فإذا أخل بها كانت فاسدة فكيف إذا كان القلب نجسا ولم يطهره صاحبه فكيف يعتد له بصلاته وإن أسقطت القضاء وهل طهارة الظاهر إلا تكميل لطهارة الباطن ومن هذا: أن استقبال القبلة في الصلاة شرط لصحتها وهي بيت الرب فتوجه المصلي إليها ببدنه وقالبه شرط فكيف تصح صلاة من لم يتوجه بقلبه إلى رب القبلة والبدن بل وجه بدنه إلى البيت ووجه قلبه إلى غير رب البيت وأمثال ذلك من الإشارات الصحيحة التي لا تنال إلا بصفاء الباطن وصحة البصيرة وحسن التأمل والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثانية: الأنس بنور الكشف وهو أنس شاخص عن الأنس
الأول تشوبه صولة الهيمان ويضربه موج الفناء وهو الذي غلب قوما على عقولهم وسلب قوما طاقة الاصطبار وحل عنهم قيود العلم وفي هذا ورد الخبر بهذا الدعاء: أسألك شوقا إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة
يجوز أن تكون الباء في قوله: بنور الكشف باء السبية أو باء الإلصاق فإن كانت باء السببية: كان المعنى: الأنس الحاصل بسبب نور الكشف وإن كانت باء الإلصاق كان المعنى: الأنس المتلبس بنور الكشف فإن قلت: ما الفرق بين الأنس ونور الكشف حتى يكون أحدهما سببا للآخر أو متلبسا به قلت: الفرق بينهما: أن نور الكشف من باب المعارف وانكشاف الحقيقة للقلب وأما الأنس: فمن باب القرب والدنو والسكون إلى من يأنس به والطمأنينة إليه فضده: الوحشة وضد نور الكشف: ظلمة الحجاب وقوله: شاخص عن الأنس الأول أي مرتفع عنه وأعلى منه قوله: تشوبه صولة الهيمان
وذلك: لأن هذا الأنس المذكور يكون مبدؤه الكشف عن أسماء الصفات التي يحصل عنها الأنس ويتعلق بها كاسم الجميل والبر واللطيف والودود والحليم والرحيم ونحوها ثم يقوى التعلق بها إلى أن يستغرق العقل فيما زجه نوع من الأسماء فيقهر العقل بصولته
و الهيمان هو الحركة إلى كل جهة بسبب الحيرة والدهشة وذلك إنما يكون مع نوع عدم تمييز وقوة إرادة قاهرة لا يملك صاحبها ضبطها وقوله: ويضربه موج الفناء أي إن صاحب هذا الأنس: يطالع مبادىء الفناء محيطة به فهي تقلبه كما يقلب الموج الغريق وهذا قبل استيلاء سلطان الفناء على وجوده وقوله: وهو الذي غلب قوما على عقولهم أي سلبهم إياها لأنهم شاهدوا شيئا فوق مدارك العقول وفوق كل
مدرك بالحواس الظاهرة والباطنة ولا إلف لهم به فأوجبت قوة المشاهدة والوارد وضعف المحل والحامل: غلبته على العقل والكامل من القوم يثبت لذلك ولا يتحرك بل يبقى كأنه جبل وتلا الجنيد في مثل هذه الحال وقد قيل له أما يغيرك ما تسمع فتلا {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [ النمل: 88 ] وبعضهم تلا في مثل ذلك: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [ الكهف: 18 ] وقوم أقوى تمكينا من هؤلاء: لم يغلبهم على عقولهم بل سلبهم طاقة صبرهم فبدا منهم ما ينافي الصبر وأما قوله: وحل عنهم قيود العلم فكلام لابد من تأويله وتكلف وجه يصححه وأحسن ما يحمل عليه: أن العلم يقيد صاحبه والمعرفة تطلقه وتوسع بطانه وتريه حقائق الأشياء فتزول عنه التقيدات التي كانت حاصلة بسبب خفاء نور المعرفة وكشفها عليه فإن العارف صاحب ضياء الكشف أوسع بطانا وقلبا وأعظم إطلاقا بلا شك من صاحب العلم ونسبته إليه كنسبة صاحب العلم إلى الجاهل فكما أن العالم أوسع بطانا من الجاهل وله إطلاق بحسب علمه فالعارف بما معه من روح العلم وضياء الكشف ونوره هو أكثر إطلاقا وأوسع بطانا من صاحب العلم فيتقيد العالم بظواهر العلم وأحكامه والعارف لا يراها قيودا ومن ههنا تزندق من تزندق وظن أنه إذا لاحت له حقائقها وبواطنها: خلع قيود ظواهرها ورسومها اشتغالا بالمقصود عن الوسيلة وبالحقيقة عن الرسم فهؤلاء هم المقطوعون عن الله القطاع لطريق الله وهم معاطب الطريق وآفاتها واتفق أن العارفين تكلموا في الحقائق وأمروا بالانتقال من الرسوم
والظواهر إليها وأن لا يقف عندها فظن هؤلاء الزنادقة: أنهم جوزوا خلعها والانحلال منها ولا ريب أن من جوز ذلك: فهو مثل هؤلاء والله يركم الخبيث بعضه على بعض فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون فصاحب المنازل: أشار إلى المعنى الحق الصحيح كما أشار إليه شيوخ القوم
وأما استدلاله بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة فليس مطابقا لما ذكره في هذه الدرجة فأين طلب الشوق إلى لقائه الباعث على كمال الاستعداد وعلى خفة أعباء السير والمزيل لكل فتور والحامل على كل صدق وإخلاص وإنابة وصحة معاملة إلى أمر مشوب بصولة الهيمان تضربه أمواج الفناء بحيث غلب قوما على عقولهم وسلب قوما صبرهم بحيث صيرهم في عالم الفناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يكن ليسأل حالة الفناء قط وإنما سأل شوقا موجبا للبقاء مصاحبا له طيب الحياة وقرة العين ولذة القلب وبهجة الروح
وصاحب المنازل كأنه فهم منه اشتياقه إلى المشاهدة من غير غلبة على عقل ولا فقد لاصطبار ولهذا قال: من غير ضراء مضرة وهي الغلبة على العقل ولا فتنة مضلة وهي مفارقة أحكام العلم
وهذا غايته: أن يؤخذ من إشارة الحديث على عادة القوم وأما أن يكون هو نفس المراد: فلا وإنما المسئول: أن يهب له شوقا إلى لقائه مصاحبا للعافية والهداية فلا تصحبه فتنة ولا محنة وهذا من أجل العطايا والمواهب فإن كثيرا ممن يحصل له هذا لا يناله إلا بعد امتحان واختبار: هل يصلح أم لا ومن لم يمتحن ولم يختبر فأكثرهم لم يؤهل لهذا فتضمن هذا الدعاء: حصول ذلك والتأهيل له مع كمال العافية بلا محنة والهداية بلا فتنة وبالله التوفيق والله أعلم
فصل قال: الدرجة الثالثة: أنس اضمحلال في شهود الحضرة لا يعبر عن
غيبه ولا يشار إلى حده ولا يوقف على كنهه الاضمحلال الانعدام و شهود الحضرة هو مشاهدة الحقيقة والفناء في ذلك الشهود قوله: ولا يعبر عن غيبه إلى آخره حاصله: أن هذا أمر وراء العبارة لا تناله العبارة ولا يحاط به عينا ولا حدا ولا كنها ولا حقيقة فإن حقيقته: تستغرق العبارة والإشارة والدلالة وفي وصفه يقول قائلهم:
فألقوا حبال مراسيهم فغطاهم البحر ثم انطبق
وههنا إنما حوالة القوم على الذوق وإشارتهم: إلى الفناء الذي يصطلم المشير وإشارته والمعبر وعبارته مع ظهور سلطان الحقيقة التي هي فوق الإشارة والعبارة والدلالة والله سبحانه وتعالى أعلم
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى