- رَهــ السَّنابِك ـجُوسام الابداع
- الجنس : عدد المساهمات : 234
تاريخ التسجيل : 31/01/2013
العمل/الترفيه : ــــــــــــ
#[ تفريغ ] الاصدار المرئي المميز لمؤسسة الهجرتين [ دعاة الشريعة ] .
الجمعة 27 سبتمبر 2013, 8:59 pm
بسم الله الرحمن الرحيم
فُرسَانُ البَلَاغِ لِلإِعلَام
قِسمُ التَّفرِيغِ وَالنَّشرِ
يُقَدِّمُ
تَفرِيغُ الإِصدَارُ المَرئِيّ:
"دُعَــاةُ الشَرِيعَةِ"
الجُزءُ الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
مُؤسَّسَةُ الهِجرَتَينِ لِلإِنتَاجِ الإِعلَامِيّ
تُقَدِّم
(دعاة الشريعة)
الجزء الأول
المعلق: السُّودَانُ ثغر الإسلام الجنوبيّ، وقلب إفريقيا النابض، وبوّابته إلى الإسلام؛ دين الله الذي ارتضاه ولا يقبل من عبد سواه، يشقّه نهر النيل العظيم؛ نعمة الله للأنام على مرّ العصور والأزمان، عبر أرضه الخصبة التي تحمل الزرع على ظهرها، وتجود بالكنوز من بطنها وجوفها.
توافدت القبائل العربيّة والإفريقيّة من شتّى البقاع إلى بلاد السودان الجاذبة، وانتشروا في معظم أرضه وأرجائه ليشكّلوا جميعًا السودان بمختلف لهجاته وسحناته، وعرف أهله بالكرم والسماحة والعزّ والإباء والشجاعة؛ أخلاق زيّنت بحبّهم للدّين وغيرتهم عليه ويشهد بذلك كلّ من عرفهم وخالطهم من الشعوب.
وعلى الرغم من كلّ ذلك فإنّ السودان قد أصابه داءٌ عضال ظهرت أعراضه لكلّ من رأى الحال، واشتدّ بلاؤه بعد أن تسلّطت عصابة من الأشرار على رقاب العباد متلبّسين بشعارات الإسلام، ففي عهدهم اشتدّ الفساد والظلم واستشرى أمرهم وطال.
أبوعلي مجذوب أبو علي (رئيس مجلس شورى الحزب الحاكم): أقول وبكلّ صراحة والله؛ أنّ الإعلام هذا كلّ ما نفتحه نجد فيه غناء، عندما تسأل شخصًا من أين تعلمت العود؟، وعلموك الكمان من أين؟ وتعلمت الغناء على يد من؟ الرقص الكثير والغناء الكثير هذا جاب لكم البلاء
صادق عبد الله عبد الماجد "المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين": لقد عشت كلّ الحكومات التي مرّت على السودان من سنة (56) إلى الآن، وقد أكون أقرب الناس لهذه الحقيقة؛ لم أجد حكومة احتواها الفساد وغرقت فيه مثل ما غرقت حكومة الإنقاذ الآن.
المعلّق: وانتشرت الحروب الداخليّة القبليّة هنا وهناك، وأتت بالثبور والوبال، وضعف الاقتصاد وقلّت الموارد والأموال.
تعليق رجل مسلم من السودان: للأسف يعني ليست المسألة في الغلاء، في ناحية تجيب ميتين، وما في أيّ جهة تشتكي ليهُ إلّا ترفع يدك لربّنا بس أكثر من كذا.
المعلّق: وبيع جنوب السودان إلى الصليبيّين بأبخس الأثمان فكان لهم الانفصال، وحورب خيرة أبناء السودان قربانًا لأمريكا وسوموا ألوانًا من الأذى والنكال.
أمّا المتطلّعون إلى السلطة وعبّاد الكراسي والرئاسات في الأحزاب فقد زعموا أنهم قد وجدوا الدواء في فصل الإسلام عن الدولة,ونبذ شرعة الرحمن وتحكيم قوانين الكفران تحت مسمّى "الديمقراطيّة".
مالك عقار "رئيس الحركة الشعبيّة قطاع الشمال": السودان في مشروع ضيّق لا يسع للناس كلّهم؛ مشروع الإسلام والعروبة.
المعلّق: فهل يا ترى يوجد دواءٌ لهذا الدّاء؟! عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "لكلّ داء دواء، فإذا أصيب دواء الدّاء برأ بإذن الله عزّ وجلّ".[صحيح مسلم].
نعم؛ إذا عُرِف دواء الداء برأ بإذن الله عزّ وجلّ، ولـمّا كانت معرفة الدواء تكمن في معرفة الدّاء وتشخيص أعراضه؛ كان لزامًا علينا أن نبحر عبر الزمان والمكان لنعلم سرّ هذا الداء حتّى نجد له الدواء.
نشيد:
وســـــاقـــــوا أمّـــــة الـــــكفـــار كـــالـــقطعان جُــهـــالا
ومـــــــا زالـــــوا كـــمـــا كـــانــوا أسودًا تُهدي أشبالا
فـــجـــئـــنـا نهــــــدم الأمجـــــــاد لــم نعــــبأ بمــــــاضيــــنا
ولــــم نـــعبـــــأ بــــتـــــاريـــــخٍ ســـرى عـــزًّا وتمـــكـــيـــنــا
فـــجـــئـــنـا نهــــــدم الأمجـــــــاد لــم نعــــبأ بمــــــاضيــــنا
ولــــم نـــعبـــــأ بــــتـــــاريـــــخٍ ســـرى عـــزًّا وتمـــكـــيـــنــا
وأذعـــــنّا إلـــى الـــكـــفـــار نستـــجـــدي الأذليــــــنا
ونلهث خلف موطــئهم حيـــارى مستــكــينــيـــنا
فقم واخلع رباط القهر واصفع كلّ من صالا
القائد/ المعتصم بالله: كل هذا الحراك لا ينفصل بحال عمّا يدور الآن في فلسطين والعراق وأفغانستان ومالي والصومال وجزيرة العرب وباكستان.
[مَا قَبلُ مَجِيءِ النُّورِ]
المعلّق: قبل بزوغ شمس الإسلام على بلاد السودان؛ سادت أمم وممالك وثنيّة عدّة ثمّ بادت وازدهرت ثمّ اندثرت كالممالك الفرعونيّة وما خلفها من الممالك النصرانيّة.
أمّا اليوم فأصبح لا يرى إلّا مساكنهم ولا تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا، ولو نظرنا في آية واحدة من كتاب الله عزّ وجلّ لكفتنا عناء البحث عن سرّ ذهاب القوم وبقاء آثارهم ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَريَةٍ أَهلَكنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصرٍ مَّشِيدٍ﴾ [الحج:45].
[وَأَشرَقَتِ الأَرضُ بِنُورِ رَبِّهَا]
المعلق: بدأ نور الإسلام يطغى على ظلمة الوثنيّة والصليبيّة في السودان, منذ عهد الخليفة الراشد عثمان ـــ رضي الله عنه ـــــ عندما غزى المسلمون ممالك النوبة الصليبيّة بقيادة عبد الله بن أبي الـسرح ـــ رضي الله عنه ــــ سنة 31هـ للهجرة ليخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد.
وتتابعت الغزوات والفتوحات الإسلاميّة بعد ذلك إلى أن سقطت مملكة "عَلَوة" آخر ممالك النوبة الصليبيّة، وفُتِحت على يد المسلمين من العرب والفونج سنة 1504م، وظلّ أهل السودان يتمسّكون وينعمون بالشريعة الإسلاميّة كمنهج حياة ويتحاكمون إليها ويجلّون علماءها، فبلغوا من العزّ والشرف ما الله به عليم.
واستمرّ الحال كذلك إلى أن بدأ الانحراف عن طريق الإسلام يكبر شيئاً فشيئاً، ليس في السودان فحسب بل في غالب ديار المسلمين، فضعف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؛ فشاعت الشهوات، وكثر الجهل بالشرع المطهّر؛ فزادت الضلالات والشبهات، حتّى بلغ الانحراف إلى عبادة غير الله؛ فعلى جانب توجّهت قلوب بالدعاء والرجاء والرغبة والرهبة إلى المخلوقين، وعلى جانب آخر توجّهت قلوب إلى التحاكم إلى أهواء وتشريعات الرجال وزبالات العقول والأفهام، نابذين وراء ظهورهم شريعة الرحمن.
﴿أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُضِلَّهُم ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 60].
وكان من عدل الله أن يكافئ من انحرف عن طريقه وابتعد عن شرعه بالبعد عن أمنه ونعمه؛ ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ لَم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلَىٰ قَومٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم﴾ [الأنفال: 53].
أمّا قديمًا وفي سنة 1820م؛ فلقد ظهر ضعف الأمارات الإسلاميّة في السودان عندما غزاها والي مصر العثمانيّ عميل فرنسا "محمد علي باشا".
[السُّودَانُ وَمُحَمَّد عَلِيّ بَاشَا]
المعلق: أرسل والي مصر العثمانيّ وعميل فرنسا محمد علي باشا حملاته العسكريّة إلى السودان في سنة 1820م، طامعًا في ثروات السودان، وراغباً في توسيع مملكته وتقويتها، حتّى يتسنّى له بترها من جسد الخلافة العثمانيّة.
يقول الأستاذ محمّد قطب في كتابه "واقعنا المعاصر": واحتضنته فرنسا احتضانًا كاملاً لينفّذ لها كلّ مخطّطاتها؛ أنشأت له جيشًا على أحدث الأساليب، ومجهزًا بأحدث الأسلحة المتاحة يومئذ، بإشراف سليمان باشا الفرنساوي، وأنشأت له أسطولاً بحريًّا على أحدث طراز يوم ذاك، وأنشأت له ترسانة بحريّة في دمياط، وأنشأت له القناطر الخيريّة لتنظيم عمليّة الريّ في مصر, هل كان هذا كلّه حباً في شخص محمّد علي؟ أو حباً في مصر؟!
المعلّق: لم تجد حملاته العسكريّة مقاومةً كبيرة, فسقطت "الأُبيّض" عاصمة مملكة "الفور" في أبريل للعام: 1821, ثم تلاها سقوط "سنّار" عاصمة سلطنة "الفونج" في يونيو من نفس العام.
لقد كانت فترة حكم محمد علي باشا وبنوه من بعده ظلامًا كالـحا ليس على أهل الإسلام في السودان فحسب؛ بل على مصر وجزيرة العرب والشام بعد استيلائه على الجميع, وفَرَض الضرائب والجبايات الباهضة, وحارب دعوة التوحيد والجهاد في جزيرة العرب.
وفُتِح الباب على مصراعيه لدخول البعثات التبشيرية؛ والتي كان أول دخول لها في السودان في عهد الخديوي عباس سنة 1848, وعيّن حفيده الخديوي إسماعيل الثاني الإنجليزي اليهودي "صمويل بيكيت" حاكمًا لمديرية الاستوائيّة في جنوب السودان, ثم الإنجليزي الصليبيّ "غردون باشا" حاكمًا لمديرية الاستوائيّة, ثم حكم دارا للسودان.
وأُدخِلت العلمانيّة عنوةً والثقافة الأوروبية إلى ديار المسلمين بابتعاث الصغار من الشباب إلى فرنسا لينهلوا من العلم والفساد, أو كليهما إن شاءوا من غير تنقيح, فكان ذلك تمهيدًا لاستبدال الشريعة بالقوانين الوضعية.
البعثات التنصيريّة في السودان
صمويل بيكيت غردون باشا
د/ عصام الدسوقي (مؤرّخ) : بعثات كثيرة جدًا جدًا، طبعًا أشهرها كانت سنة: (26) عشان اسم "رفاعة الطهطاوي", مع إن كل بعثة كان عليها إمام ليصلي بالمبعوثين, وهذه أيضاً حيلة من احتيالات محمد علي؛ بمعنى إيه؟ هو عارف إنه لما يذهب بأولاد المصريين بين قوسين (المسلمين) إلى بلاد الفرنجة, والناس المصريين عارفين الفرنجة هؤلاء من ساعة الحملة الفرنسية, قال هذا سوف يخسّر أولادنا, هو يريد يطمنهم، يقول لهم ماذا؟ يقول لهم لا يهمكم الإمام هذا هو.
المعلّق: فأصبح محمد علي باشا بذلك قدوةً لمن أتى بعده من الطواغيت والكرزايات.
لم يرضَ شعب السودان المسلم الأبيّ بذلك الذل والهوان؛ فثاروا عدة ثوراتٍ, كان أكبرها وأوسعها الثورةُ المهدية, والتي بدأت في أغسطس عام 1880, تزامنت هذه الثورة مع ثورة الشعب المصري على الخديوي توفيق؛ حفيد محمد علي في سبتمبر لعام 1881, رافضين الظلم، وتدخل الغرب الصليبيّ في شؤون البلاد الداخليّة, بعد أن فتح محمد علي وبنوه الباب واسعًا لهم.
فقررت بريطانيا أن تتدخل عسكريًا في مصر بغية احتلالها, متحججةً بحماية رعاياها ومصالحها من القلاقل التي تحدث فيها؛ فقصفت المدن بالمدافع، وقتّلت الأهالي, وانحاز لهم عميلهم الخديوي توفيق وطلب حمايتهم.
أما في السودان فقد توالت انتصارات الشعب السوداني حتى فُتِحت الخرطوم في يناير لعام 1885, وقتلوا ذبحًا الصليبي الإنجليزي "غردون باشا" حكم دار السودان في ذلك الوقت.
ولكن سرعان ما عاد الإنجليز مجددًا للسودان لاحتلاله ونهب ثرواته, بعد أن كان لهم احتلال مصر, وبعد استشعارهم لـضعف الدولة المهديّة آنذاك.
[السُّودَانُ وَالغَزوِ الصَّلِيبِيّ]
المعلق: أرسل الإنجليز حملتهم العسكرية إلى السودان بقيادة اللورد "كيتشنر" سنة: (1896), مستعينين في ذلك بدعم وجيش عملائهم من أحفاد محمد علي باشا.
الشيخ/ أيمن الظواهري: وفي عام 1896 أرسلت بريطانيا حملةً مكونةً من عدة فرقٍ بريطانية ومصرية بقيادة اللورد "كيتشنر", وبعد عدة معارك أبلى فيها أتباع الحركة المهدية بلاءً حسنًا، وأظهروا فيها ضروبًا من البسالة والشجاعة في مواجهة جيشٍ يتفوق عليهم بمعداته وأسلحته, بعد تلك المعارك واجه "كيتشنر" وجيشه المصري الإنجليزي جيش الخليفة عبد الله في معركة "كرري" الحاسمة شمالي أم درمان في سبتمبر من عام: (1898), واستطاع الجيش المصري الإنجليزي بمدافع وبنادق "الم****************م و" الـلي إم فلد", أن يهزم جيش الخليفة المسلح بالحراب والسيوف, وحصدت المدافع الرشاشة الإنجليزية جيش الحركة المهدية؛ فقتلت (11) ألفًا، وجرحت (16) ألفًا، بينما قُتِل من الجيش البريطاني المصري (48) رجلاً".
المعلّق: وقُتِل الخليفة عبد الله التعايشي بعد ذلك في معركة "أم دبيكرات", لتسقط الدولة المهدية، ويحلّ محلها "الحكم الثنائي الإنجليزي المصري" الذي أُبرِمت اتفاقيته في (19) من يناير للعام: (1899).
كرومر
الشيخ/ أيمن الظواهري: الحكم الثنائي باختصار؛ هو ما نشأ عن الاتفاقية التي أعدها "كرومر" لحكم السودان, وسميت باتفاقية: "الحكم الثنائي المصري الإنجليزي", وفيها تقرّر أن يرشح البريطانيون حاكمًا عامًا للسودان يعيّنه خديوي مصر, وكان الحكم ثنائيًا بالاسم، بريطانيًّا بالفعل, واستمر قرابة ستين 60 عامًا".
المعلّق: فأنفت نفوس الأباة ظلم المحتل وبغيه, فقامت الثورات في شتى بقاع السودان، فقوبلت بالقتل والقمع من قبل الإنجليز, وكان من أكبر تلك الثورات؛ ثورة سلطان دارفور، السلطان "علي دينار" في عام 1916, والتي انتهت بقتله واحتلال دارفور.
نشيد:
أمامًا أمامًا جنود الفــــــــــــــــــــــداء
اعدّوا الشباب ليوم النـــــــــــــــداء
أعيدوا أعيدوا إلى الحق سلطانه
ودكّوا معاقل جنود العـــــــــــــــداء
فنحن جنــــــــــــــــــــــــــودٌ لنا غـــــايةٌ
إلى الله قمنا لنصر الهــــــــــــــدى
المعلق: ولا تزال أرحام الأمهات تنجب لنا في دارفور وفي جميع السودان أباةً شمّ الأنوف؛ يوالون المؤمنين ويعادون الكافرين من اليهود والنصارى والمرتدين, وشذّ من هؤلاء الصادقين من ارتمى في أحضان الكافرين ورضع من ألبانهم وثقافاتهم.
عبد الواحد محمد نور "رئيس حركة تحرير السودان": وهناك مكتب فُتِح لـ"حركة تحرير السودان" في إسرائيل, لأن لوائحنا الداخلية في حركة تحرير السودان يجيز للجميع أينما كانوا في أي مكانٍ في العالم أن يفتحوا مكتبًا لهم وفق قوانين البلد الموجودون فيه.
المعلّق: لم يكن دين العمالة والخيانة وليد اليوم, فلقد عمد المحتل الإنجليزي قديمًا إلى تجنيد ضعاف النفوس من أبناء السودان، والسودان منهم بريء, فقرّبوا من والاهم من زعماء القبائل والطوائف الدينيّة, ونصّبهم مدراء للإدارات الأهلية, ليعينوهم على حكم البلاد وجمع الجبايات, بينما عادى وأذلّ من عاداهم من القبائل, متبعًا في ذلك سياسة "فرّق تسد", التي لازال حكامُ العصر يستخدمونها بين أهلنا في دارفور.
ومن أبرز وأغرب ما تشابه به مع حكام العصر وطواغيت الزمان, إنشاؤه لـما أطلق عليه "لجنة العلماء" لإصدار الفتاوى بنكهةٍ إسلامية ورحٍ صليبية , فصاروا بذلك شرُّ سلفٍ لشرِّ خلف من علماء السوء وفقهاء التسول.
علي المرغيني في احتفاله مع المحتل الصليبي بالمولد
عبد الرحمن المهدي؛ مع رئيس الوزراء البريطاني تشرشل الحاكم العام البريطاني مع عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني
المعلق: وفي عام 1914؛ اندلعت الحرب العالميّة الأولى بين مملكة بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية على جانب والذين أطلق عليهم دول الحلفاء, بينما كان على الجانب الآخر؛ ألمانيا القيصرية وإمبراطورية النمسا والمجر والسلطنة العثمانية والذين أطلق عليهم دول الوسط.
دخلت السلطنة العثمانية الحرب العالميّة وهي في ضعفٍ ديني ودنيوي؛ وقد كانت مقاليد حكمها في ذلك الوقت بيد "جمعية الإتحاد والترقيّ" العلمانيّة لتتوالى هزائمها.
وفي عام 1917 احتلّت القوات البريطانية فلسطين, لتسلّم بعد ذلك لليهود في مقابل ما دفعوه لبريطانيا من أموال وفقًا لوعد وزير الخارجية البريطاني "بلفور".
وفي عام 1918 سقطت الدولة العثمانية باحتلال عاصمتها إسطنبول, وتم تقاسم واحتلال ما تبقى من ديار المسلمين على أيدي الحلفاء وفقًا لمعاهدة "سايكس بيكو", التي أبرمت في عام 1916, لتظهر لنا هذه الحدود السياسية التي نراها اليوم, والتي قسّمت عالمنا الإسلامي إلى دويلاتٍ صغيرة.
وفي عام 1919 وبعد انتهاء الحرب، سافر وفدٌ من السودان إلى بريطانيا لتهنئة مليكها "جورج الخامس" على انتصاره واحتلاله لما تبقى من ديار المسلمين, بعد ما قدموا له الدعم والولاء اللازمين في حربه.
اقتباس من كتاب: وفي يوليو أرسل وفدٌ سوداني لبريطانيا بهدف تهنئة مليكها على الانتصار في الحرب, وتكوّن من ثلاثةٍ من رؤساء الطوائف وهم: "علي الميرغني, ويوسف الهندي, وعبد الرحمن المهدي", ومن ثلاثة علماء هم: "علي الطيب أحمد هاشم (المفتي), و أبي القاسم أحمد هاشم (رئيس لجنة العلماء), وإسماعيل الأزهري (قاضي دارفور), وأربعةٍ من زعماء القبائل.
المعلّق: أما ما جرى بين ذلك الوفد وبين ملك بريطانيا, فكان مما تشمئزّ له القلوب, وتنكره سليمات الأفهام والعقول, ولقد حفظ لنا التاريخ بعضًا منه ليكون عبرةً للمعتبرين, وتذكرةً للمتذكرين.
الوفد السوداني الذي التقى بملك بريطانيا "جورج الخامس" في يوليو عام (1919م)
فقد جاء في كتاب "السودان من الحكم الثنائي إلى انتفاضة رجب" ما نصه: وقف أعضاء الوفد صفًا واحدًا, ثم تقدّموا حتى صاروا على مقربة من العرش, فحيّوا ملك بريطانيا، وألقى علي الميرغني خطابًا باسم الوفد, أعرب فيه عن بهجتهم بشرف المثول أمام الملك؛ والتمس باسم أهالي السودان, أن أقدّم بكل خضوعٍ لجلالتكم تهانينا القلبية على الانتصار المجيد الذي أحرزته جنودكم, إن ثبات جنود الحلفاء الذي دعا إلى انهزام العدو انهزامًا تامًا, وانتصاركم الباهر؛ أوجب الإعجاب العظيم من أهل السودان, وأفعم قلوبهم سرورًا, وقد تحققوا من أن هذه الحرب تختلف عما سبقها من الحروب, لأنها تفصل في مصير الشعوب الضعيفة, وكانت حربًا بين الحق والباطل.
المعلق: وتحدث في خطابه عن مؤازرة السودان للحلفاء, ووقفته معهم, وما قدمه من المجهود الحربي من غير منٍّ وأذى, وقال: إن القليل الذي أعطيناه إنما هو ثمرة ما زرعته حكومة جلالتكم من الإحسان, فكانت ثمرة الإحسان الشكران, جعلتم العدل أساس ملككم الواسع, فسادت روح العدالة والسلام سائر أنحاء البلاد, إن حياة أهل السودان في المستقبل تتوقف على زيادة ارتباط البلاد بإمبراطورية جلالتكم, لذا نضرع إلى الله العلي القدير أن يمنح جلالتكم العمر الطويل المقرون بالسعادة, وأن يحفظ بريطانيا العظمى رافعة لواء الحرية والمدنية في العالم, لتخفق الراية البريطانية طويلاً على السودان ناشرةً السلام.
وحين مثل "عبد الرحمن المهدي" أمام الملك قدّم له سيفًا مقبضه وحمائله من الذهب الخالص, وهو "سيف النصر"؛ سيف والده الإمام المهدي, وقدمه دليلاً على خضوعه وولائه, وألقى كلمةً قال فيها:إنه يقدّم ذلك السيف التاريخيّ دليلاً على ولائه للعرش, ولكي يكون تسليمه لجلالتكم دليلاً قاطعًا ثابتًا لرغبتي في أن تجعلوني وجميع أتباعي وأهلي بالسودان في دائرة سلمكم وعطفكم بعد مرور هذه السنين الطويلة التي برهنتُ فيها لرجالكم العاملين بالسودان عن الإخلاص بالعمل في ظروف مختلفة, وفي السودان الآن أعدادٌ كبيرةُ من المواطنين تنتظر عودتي حائزًا على جزيل عطفكم, وهم يرجون أن تعتبروهم بين رعاياكم المخلصين.
ويردّ عليه الملك مقدرًا ما أسماه: "عاطفة الولاء" التي دعته إلى تقديم السيف كدليل إخلاصكم وعواطفكم نحوي: وإني أقبله منكم وأعيده لكم و لورثائكم من بعدكم؛ للدفاع عن عرشي وإمبراطوريتي, وبصفة ذلك مني دليلاً على قبول خضوعكم وخضوع أتباعكم.
ولم يغادر الوفد بريطانيا حتى بذر مع الصليبيين أول بذور فصل السودان عن مصر, إنفاذاً للمخطط الصليبيّ في استمرار تفتيت وتمزيق العالم الإسلامي.
اقتباس من كتاب: وفي لندن عبّر رجال الوفد عن عدم ثقتهم في نوايا المصريين, ومعارضتهم استمرار النفوذ المصري بالسودان, ورغبتهم في أن يحكموا بسلطة البريطانيين, وفي هذا المنحنى كانوا يعبّرون عن صوت ورغبات وسياسة الإدارة البريطانية.
المعلّق: ولم يقتصر كيد بريطانيا على ما سبق, بل باشرت بإنشاء الطرق والجسور والمدارس لإيهام الشعب السوداني أنها تسعى في مصلحته, ولكن كان الأمر خلاف الظاهر؛ فكان ينشأ الطرق والجسور لتسهيل نقل ثروات السودان إلى بريطانيا.
وأما سرّ المدارس التعليمية؛ فيكفينا ما نقله الشيخ "محمد قطب" في كتابه: "واقعنا المعاصر" من كلام اللورد "كرومر" المندوب السامي البريطاني في مصر:
وحين بدأ حكمه في مصر شكاه المبشرون إلى الحكومة البريطانية بدعوى أنه يضيّق عليهم, فلما أرسلت الحكومة البريطانية الشكوى إليه ليرد عليها, جمع المبشرين وقال لهم: هل تتصورون أنني يمكن أن أضيّق عليكم؟! ولكنكم تخطفون الأطفال من الشوارع, وتخطفون الرجال لتنصيرهم فتستفزون المسلمين فيزدادون تمسكًا بدينهم, ولكني اتفقت مع شاب تخرّج قريبًا في كلية اللاهوت "Trinity college" بلندن ليضع سياسة تعليميّة ستحقق جميع أهدافكم، هكذا يكون العمل البطيء الأكيد المفعول.
المعلّق: فكان ذلك الشاب هو القس "دان لوب" الذي عينه "كرومر" مستشارًا لوزارة المعارف المصرية، والذي كان أظهر كيدا وأبلغ مكرا من كل ذلك قانون "المناطق المقفولة" الذي أنفذه المحتل الصليبيّ على جنوب السودان
الشيخ/ أيمن الظواهري: وفي مدة "الحكم الثنائي" جعل البريطانيون من جنوب السودان منطقةً مقفولة بنص قانون "المناطق المقفولة", يمنع دخول السودانيين الشماليين والمصريين إليه إلا في مهامٍ رسمية أو بتصريحاتٍ خاصة, بينما كفل الحرية التامة لدخول الجنوب والتجول فيه للأروبيين, وحظر على الجنوبيين محاكاة الشماليين في الزي أو نمط الحياة, وتم إخلاء الجنوب من العرب والمسلمين, وحوربت اللغة العربية, ومنعت الأسماء الإسلامية, وقُصِر التعامل على الإنجليزية, وحوربت الشعائر والعادات الإسلامية, وكانت الحكومة تعاقب بشدة كل من يضبط وهو ينطق العربية أو يؤدّي شعائر إسلامية, وفُتِح المجال واسعًا للنشاط التبشيري, وبذلك بذر هذا القانون بذرة فصل جنوب السودان عن شماله.
المعلق: وعلى الرغم من كل ذلك المكر السيء, فقد عادت الحرب العالمية مجددًا بين الصليبيين أنفسهم في عام 1939, لتكون الثانية بين دول المحور وعلى رأسهم ألمانيا النازية, وإيطاليا الفاشية, وإمبراطوريّة اليابان, وبين دول الحلفاء وعلى رأسهم الاتحاد السوفيتي الشيوعي الملحد, والدول الرأسمالية وهي أمريكا, وبريطانيا, وفرنسا، ولكن هذه المرّة كانت الحرب أشدّ فتكاً وقتلاً ودمارًا على الجانبين ليكون المنتصر فيها أفضل الخاسرين.
﴿وَلَقَد أَرسَلنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبلِكَ فَأَخَذنَاهُم بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَولَا إِذ جَاءَهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَـٰكِن قَسَت قُلُوبُهُ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُّبلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالـحَمدُ لِلَّـهِ رَبِّ العَالَمِينَ (45)﴾ [الأنعام].
انتصر الحلفاء على دول المحور في عام 1945م ، وقاموا في نفس العام بإنشاء منظمّة الأمم المتّحدة، ليُنصّبوا أنفسهم زعماء دائمين لمجلس أمنها، والذي كانت بيده سلطة المنظّمة الفعليّة والصلاحيّة المطلقة في استعمال القوّة المسلّحة وفقًا لقوانين المنظّمة، ضاربين في ذلك بديمقراطيّتهم التي كانوا يتشدّقون بها عرض الحائط، وما كان ذلك إلّا محافظة على انتصارهم وهيمنتهم وظلمهم للمستضعفين من شعوب العالم.
وعلى الرغم من انتصار دول الحلفاء إلا أنّ حجم الخراب والدمار الذي أوقعه القصف الألماني ببريطانيا وفرنسا أدّى إلى تدمير بنيتهما التحتيّة وانهيار اقتصادهما لتفقدا بذلك مكانتهما العالميّة لصالح أمريكا الرأسماليّة والاتحاد السوفياتي الشيوعي.
رتشارد داودن "الجمعيّة الإفريقيّة الملكيّة": أفلست بريطانيا بفعل الحرب العالميّة الثانيّة ولم تعد قادرة على تحمّل نفقات إدارة مستعمراتها، كان جدّي حينئذٍ يعمل في ساحل الذهب الذي أصبح يعرف بـ"غانا"، وكان يرسل أرزّا لوالديَّ في انجلترا الذين لم يريَا أرزّا أو فولا سودانيًّا منذ ما قبل خمس سنوات أو ستّ.
المعلّق: وبذلك قرّرت بريطانيا الرحيل من السودان طواعيّة، ولكن لم تكن لتترك السودان بثرواته هكذا من غير أن تخلّف وراءها في حكمه من يخلص لها الولاء، ولم تجد لحكم السودان أنسب من أولئك الذي أظهروا لمليكها الولاء في لندن ومن نحا نحوهم.
[قِصّةُ الِاستِقلَالُ]
المعلّق: وتمهيداً لإعداد من يخلفها في السودان وافقت بريطانيا على إنشاء ما عُرِف بــ"مؤتمر الخريجين" في عام 1938م، والذي كان أداةً لتفريخ الأحزاب السياسيّة التي نراها اليوم، والتي كان على رأسها "حزب الأمّة"، الذي كان مدعومًا من "عبد الرحمن المهدي" زعيم "طائفة الأنصار"، و"الـحزب الوطنيّ الاتحادي" المدعوم من "علي الميرغني" زعيم طائفة الختميّة.
وفي ديسمبر لعام 1948م؛ قامت بريطانيا بإنشاء أوّل برلمان تشريعيّ سودانيّ على النمط البريطاني لملئه بتلك الأحزاب السياسيّة.
وفي فبراير لعام 1953م؛ تمّ الاتفاق بين الإدارتين البريطانيّة والمصريّة على تصفية "الحكم الثنائي" في فترة انتقاليّة يتمّ فيها إجراء انتخابات لذلك البرلمان، وتنتهي بمنح السودان حقّ تقرير مصيره في الوحدة مع مصر أو الاستقلال والانفصال عنها.
وبناءً على ذلك وفي خلال شهري نوفمبر وديسمبر من نفس العام، أجريت الانتخابات والتي انتهت بحصول "الحزب الوطنيّ الاتحاديّ" على غالبيّة مقاعد البرلمان وعلى رئاسة مجلس الوزراء ليكون "إسماعيل الأزهريّ" أوّل رئيسٍ للوزراء، وكان البرلمان يضمّ كذلك ممثّلين لمختلف الأحزاب السياسيّة من شمال السودان وجنوبه.
وفي أغسطس لعام 1955؛ تمرّد نصارى الجنوب التابعين لقوّة دفاع السودان في "توريت" إحدى مدن السودان رافضين نتيجة الانتخابات؛ فغدروا بالمسلمين هناك وقتلوا منهم المئات تحت مرأى ومسمع حكومة الاحتلال البريطاني، ليظهر بذلك أوّلاً نتاج ما بذرته بريطانيا من قانون "المناطق المقفولة"ـ وليظهر ثانيًا فشل الديمقراطيّة في أولى جولاتها في بلد متعدّد القوميّات والأعراق كالسودان.
وفي ديسمبر من نفس العام؛ قام البرلمان بالتصويت على استقلال السودان وانفصاله عن مصر, إرضاءً للرغبة البريطانية في تفتيت العالم الإسلاميّ، ثمّ قامت الأحزاب في داخل البرلمان, بتشريع أوّل دستور علمانيّ على النمط البريطانيّ.
وفي الأوّل من يناير عام 1956م؛ تمّ الاحتفال بالاستقلال بمباركة بريطانيا، وهكذا رحلت بريطانيا لتحلّ محلّها تلك الأحزاب على حكم السودان.
[حُكُومَاتُ مَا بَعدَ الِاستِقلَالِ]
المعلّق: كانت الأحزاب السياسيّة منقسمة منذ البداية حول سياساتها الخارجيّة؛ فمنهم من كان يفضّل موالاة بريطانيا ووريثتها أمريكا والعمل تحت لوائهما، بينما كان الآخرون يفضّلون الاتحاد السوفيتي الشيوعي الملحد.
أمّا داخليًّا؛ فقد كانت همّة الأحزاب مصروفة إلى التآمر والتنازع فيما بينها من أجل الوصول إلى السلطة بعيدًا عن السعي لحلّ مشكلة الجنوب أو مشاكل السودان الأخرى، وكان البرلمان كلّما قام بتشكيل حكومة حزبيّة إلّا ويستبدلها بأخرى، وكان آخرها تلك التي ترأسها "عبد الله خليل" من "حزب الأمّة"، والذي اشتدّت في عهده أزمة البلاد الاقتصاديّة لتقوم المظاهرات ضدّ حكومته.
وعندما سعى البرلمان لسحب الثقة من حكومته قام بالاتصال بالفريق "عبّود" طالبًا منه استيلاء الجيش على السلطة، فقبل "عبّود" العرض وتمّ الانقلاب العسكريّ في نوفمبر لعام 1958م، لتفشل الديمقراطيّة في حكم السودان مجدّدا وللمرّة الثانية.
حضي الانقلاب بتأييد الرأي العام في بادئ الأمر لـمّا ضاق الناس ذرعًا بفوضى الأحزاب، ولكن سرعان ما تحوّل الأمر عندما قام "عبّود" باحتكار السلطة ونقل حقّ التشريع من البرلمان للمجلس الأعلى للقوّات المسلّحة، الذي نصّب نفسه رئيسًا له.
وفي عهده ولد في الجنوب التنظيم العسكريّ للأنانيا المدعوم من قبل الإرساليّات التبشيريّة، والذي كان يدعو إلى فصل الجنوب عن شمال السودان، وفي عهده كذلك ارتفعت الأسعار وانتشرت البطالة.
وتحت كلّ ذلك الضغط ما كان للثورة إلّا أن تنفجر في أكتوبر لعام 1964م، وانتهت الثورة بخضوع عبّود لها، وعلى الرغم من كثرة التضحيات والدماء التي بذلها الشعب السودانيّ لإنجاح ثورته، إلّا أنّ الأحزاب استطاعت قطف ثمار الثورة لتعود مجدّدًا إلى برلمانها ولتحكم البلاد والعباد بديمقراطيّتها وبنفس فوضاها و تآمرها وفشلها.
وهكذا مع تأزّم الأوضاع الأمنية والاقتصاديّة من جرّاء فوضى الأحزاب؛ نجح تنظيم الضبّاط الأحرار بقيادة العقيد "جعفر محمّد نميري" في الاستيلاء على السلطة عبر انقلاب عسكريّ في مايو لعام 1969م، لتفشل الديمقراطيّة الحزبيّة مجدّدًا وللمرّة الثالثة.
قامت حكومة النميري في مارس لعام 1972م بتوقيع اتفاقيّة "أديس أبابا" مع المتمرّدين الجنوبيين بوساطة من أثيوبيا ومجمع الكنائس العالمي؛ والذي نصّ على وقف إطلاق النار، ومنح نصارى الجنوب حكما ذاتيًّا واستيعاب أفراد حركة "الأنانيا" في القوات المسلّحة السودانيّة.
وعلى الرغم من تبنّي النظام الجديد في أوّل أيّامه للفكر الاشتراكي العلمانيّ إلّا أنّه وفي آخر أمره وفي سبتمبر لعام: 1983م قام بتطبيق بعض قوانين الشريعة الإسلاميّة، حيث حظرت الخمور وطبّقت الأحكام الحديّة، وكان ذلك سابقة لم يشهدها السودان منذ حقبة الاحتلال البريطانيّ، فاستشاط لذلك غضب الكنيسة لتقوم بإثارة الفتن ودعم التمرّد في جنوب السودان مجدّدًا.
فتمرّدت فرقة عسكريّة جنوبيّة في حامية "بور"، فأرسلت لها الحكومة ضابطًا جنوبيًّا في الجيش هو "جون قرنق" ليثنيها عن تمرّدها، إلّا أنّه بدلاً من ذلك انضمّ إليهم ليصبح قائدهم، ولينشأ "الجيش الشعبيّ" لتحرير السودان، وجناحه المدنيّ "الحركة الشعبيّة" والذين كانوا أداة لحرب الإسلام وأهله.
[حقيقة حقد الحركة الشعبيّة على العرب والمسلمين]
الهالك يوسف كوه (قيادي في الحركة الشعبيّة):الحركة الشعبيّة هذه ضد الإسلام والعروبة.
اللواء في الجبهة الثوريّة أحمد العمدة "قطاع الشمال": يأمر باستهداف المزارعين في ولاية النيل الأزرق.
المعلّق: وفي إبريل لعام 1985م؛ قامت الأحزاب باستغلال الأزمة الاقتصاديّة التي كانت تمرّ بها البلاد في إثارة المظاهرات، والتي سرعان ما تحوّلت إلى ثورة عارمة انتهت باستيلاء وزير الدفاع "عبد الرحمن سوار الذهب" على السلطة، ليقوم بعد عام من ذلك بتسليم مقاليد الحكم للأحزاب السياسيّة فكانت من نصيب "حزب الأمّة" بقيادة "الصادق المهديّ".
وفي ظلّ حكم الأحزاب المتميّز بالفوضى والصراع على السلطة؛ منيت القوات المسلحة بهزائم شتّى من قبل الحركة الشعبيّة لتحرير السودان وتدهورت أوضاع البلاد الاقتصاديّة.
عمر نور الدائم "وزير ماليّة حكومة صادق المهدي": التجربة من الناحية الشخصية مريرة، يعني أنا أقول هذا أيضًا من الصراحة ومن الحقيقة؛ لا يعجبني كل الأداء الماشي في البلاد، وتكرارا ومراراً قلت هذا سواءً في الجمعيّة التأسيسية، في المنابر السياسيّة، في الصحافة، في كل المنابر؛ ليس عندي أيّ رضا بما يدور، وأنه بالأخص من ناحية إدارة البلاد تردّي بصورة مزعجة بشكل غير معقول، وأنه أصبحت إداراتنا ضعيفة وهشّة ولا تقضي واجبها من جميع المستويات".
المعلّق: أمّا بـالفوضى المعهودة؛ قام "الـحزب الاتحاديّ الديمقراطي" بالتوقيع على اتفاق مع "الحركة الشعبيّة" لوقف إطلاق النار في مقابل إبطال قوانين الشريعة الإسلاميّة، متجاهلاً في ذلك رئيس الوزراء الصادق المهدي، والذي قام برفض الاتفاق في بادئ الأمر إلّا أنّه قام بالموافقة عليه إرضاءً للحركة الشعبيّة.
[الصَادِقٌ المَهدِيّ يَتَعَهَّدُ بِإِلغَاءِ قَوَانِينَ الشَّرِيعَةِ بِالضَّربَةِ القَاضِيَةِ]
ــــ عليه من الله ما يستحق ــــ
الصادق المهديّ: شُرّعت في سبتمبر 1983م تلك القوانين التي صار اسمها التجاري إذا جاز التعبير "قوانين سبتمبر"، فلذلك الذي فعلناه هو أنّنا بدأنا حركة من إلغاء القوانين تدريجيا شملت حتّى الآن أكثر من 20% من تلك القوانين، ولكن هناك الآن برنامج لإلغائها أو لإلغاء البقيّة بصورة واحدة، فالموقف هو إذن أنّنا ماضون في هذا الطريق، الآن عن طريق النقط كما يقول الملاكمون، وبعد حين عن طريق الضربة القاضية كما يقولون أيضا, بعد أن يكتمل الاتفاق على البديل الذي أشرت إليه.
المعلّق: وفي خضم هذه الفوضى، وفي يونيو لعام 1989م؛ قامت الجبهة الإسلاميّة القوميّة بزعامة "حسن الترابيّ" بانقلاب عسكريّ مقنّع الوجه والهدف، واجهته العميد في الجيش السوداني "عمر البشير"، معلنة ميلاد ما يسمّى ثورة الإنقاذ.
فُرسَانُ البَلَاغِ لِلإِعلَام
قِسمُ التَّفرِيغِ وَالنَّشرِ
يُقَدِّمُ
تَفرِيغُ الإِصدَارُ المَرئِيّ:
"دُعَــاةُ الشَرِيعَةِ"
الجُزءُ الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
مُؤسَّسَةُ الهِجرَتَينِ لِلإِنتَاجِ الإِعلَامِيّ
تُقَدِّم
(دعاة الشريعة)
الجزء الأول
المعلق: السُّودَانُ ثغر الإسلام الجنوبيّ، وقلب إفريقيا النابض، وبوّابته إلى الإسلام؛ دين الله الذي ارتضاه ولا يقبل من عبد سواه، يشقّه نهر النيل العظيم؛ نعمة الله للأنام على مرّ العصور والأزمان، عبر أرضه الخصبة التي تحمل الزرع على ظهرها، وتجود بالكنوز من بطنها وجوفها.
توافدت القبائل العربيّة والإفريقيّة من شتّى البقاع إلى بلاد السودان الجاذبة، وانتشروا في معظم أرضه وأرجائه ليشكّلوا جميعًا السودان بمختلف لهجاته وسحناته، وعرف أهله بالكرم والسماحة والعزّ والإباء والشجاعة؛ أخلاق زيّنت بحبّهم للدّين وغيرتهم عليه ويشهد بذلك كلّ من عرفهم وخالطهم من الشعوب.
وعلى الرغم من كلّ ذلك فإنّ السودان قد أصابه داءٌ عضال ظهرت أعراضه لكلّ من رأى الحال، واشتدّ بلاؤه بعد أن تسلّطت عصابة من الأشرار على رقاب العباد متلبّسين بشعارات الإسلام، ففي عهدهم اشتدّ الفساد والظلم واستشرى أمرهم وطال.
أبوعلي مجذوب أبو علي (رئيس مجلس شورى الحزب الحاكم): أقول وبكلّ صراحة والله؛ أنّ الإعلام هذا كلّ ما نفتحه نجد فيه غناء، عندما تسأل شخصًا من أين تعلمت العود؟، وعلموك الكمان من أين؟ وتعلمت الغناء على يد من؟ الرقص الكثير والغناء الكثير هذا جاب لكم البلاء
صادق عبد الله عبد الماجد "المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين": لقد عشت كلّ الحكومات التي مرّت على السودان من سنة (56) إلى الآن، وقد أكون أقرب الناس لهذه الحقيقة؛ لم أجد حكومة احتواها الفساد وغرقت فيه مثل ما غرقت حكومة الإنقاذ الآن.
المعلّق: وانتشرت الحروب الداخليّة القبليّة هنا وهناك، وأتت بالثبور والوبال، وضعف الاقتصاد وقلّت الموارد والأموال.
تعليق رجل مسلم من السودان: للأسف يعني ليست المسألة في الغلاء، في ناحية تجيب ميتين، وما في أيّ جهة تشتكي ليهُ إلّا ترفع يدك لربّنا بس أكثر من كذا.
المعلّق: وبيع جنوب السودان إلى الصليبيّين بأبخس الأثمان فكان لهم الانفصال، وحورب خيرة أبناء السودان قربانًا لأمريكا وسوموا ألوانًا من الأذى والنكال.
أمّا المتطلّعون إلى السلطة وعبّاد الكراسي والرئاسات في الأحزاب فقد زعموا أنهم قد وجدوا الدواء في فصل الإسلام عن الدولة,ونبذ شرعة الرحمن وتحكيم قوانين الكفران تحت مسمّى "الديمقراطيّة".
مالك عقار "رئيس الحركة الشعبيّة قطاع الشمال": السودان في مشروع ضيّق لا يسع للناس كلّهم؛ مشروع الإسلام والعروبة.
المعلّق: فهل يا ترى يوجد دواءٌ لهذا الدّاء؟! عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "لكلّ داء دواء، فإذا أصيب دواء الدّاء برأ بإذن الله عزّ وجلّ".[صحيح مسلم].
نعم؛ إذا عُرِف دواء الداء برأ بإذن الله عزّ وجلّ، ولـمّا كانت معرفة الدواء تكمن في معرفة الدّاء وتشخيص أعراضه؛ كان لزامًا علينا أن نبحر عبر الزمان والمكان لنعلم سرّ هذا الداء حتّى نجد له الدواء.
نشيد:
وســـــاقـــــوا أمّـــــة الـــــكفـــار كـــالـــقطعان جُــهـــالا
ومـــــــا زالـــــوا كـــمـــا كـــانــوا أسودًا تُهدي أشبالا
فـــجـــئـــنـا نهــــــدم الأمجـــــــاد لــم نعــــبأ بمــــــاضيــــنا
ولــــم نـــعبـــــأ بــــتـــــاريـــــخٍ ســـرى عـــزًّا وتمـــكـــيـــنــا
فـــجـــئـــنـا نهــــــدم الأمجـــــــاد لــم نعــــبأ بمــــــاضيــــنا
ولــــم نـــعبـــــأ بــــتـــــاريـــــخٍ ســـرى عـــزًّا وتمـــكـــيـــنــا
وأذعـــــنّا إلـــى الـــكـــفـــار نستـــجـــدي الأذليــــــنا
ونلهث خلف موطــئهم حيـــارى مستــكــينــيـــنا
فقم واخلع رباط القهر واصفع كلّ من صالا
القائد/ المعتصم بالله: كل هذا الحراك لا ينفصل بحال عمّا يدور الآن في فلسطين والعراق وأفغانستان ومالي والصومال وجزيرة العرب وباكستان.
[مَا قَبلُ مَجِيءِ النُّورِ]
المعلّق: قبل بزوغ شمس الإسلام على بلاد السودان؛ سادت أمم وممالك وثنيّة عدّة ثمّ بادت وازدهرت ثمّ اندثرت كالممالك الفرعونيّة وما خلفها من الممالك النصرانيّة.
أمّا اليوم فأصبح لا يرى إلّا مساكنهم ولا تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا، ولو نظرنا في آية واحدة من كتاب الله عزّ وجلّ لكفتنا عناء البحث عن سرّ ذهاب القوم وبقاء آثارهم ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَريَةٍ أَهلَكنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصرٍ مَّشِيدٍ﴾ [الحج:45].
[وَأَشرَقَتِ الأَرضُ بِنُورِ رَبِّهَا]
المعلق: بدأ نور الإسلام يطغى على ظلمة الوثنيّة والصليبيّة في السودان, منذ عهد الخليفة الراشد عثمان ـــ رضي الله عنه ـــــ عندما غزى المسلمون ممالك النوبة الصليبيّة بقيادة عبد الله بن أبي الـسرح ـــ رضي الله عنه ــــ سنة 31هـ للهجرة ليخرجوا العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد.
وتتابعت الغزوات والفتوحات الإسلاميّة بعد ذلك إلى أن سقطت مملكة "عَلَوة" آخر ممالك النوبة الصليبيّة، وفُتِحت على يد المسلمين من العرب والفونج سنة 1504م، وظلّ أهل السودان يتمسّكون وينعمون بالشريعة الإسلاميّة كمنهج حياة ويتحاكمون إليها ويجلّون علماءها، فبلغوا من العزّ والشرف ما الله به عليم.
واستمرّ الحال كذلك إلى أن بدأ الانحراف عن طريق الإسلام يكبر شيئاً فشيئاً، ليس في السودان فحسب بل في غالب ديار المسلمين، فضعف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر؛ فشاعت الشهوات، وكثر الجهل بالشرع المطهّر؛ فزادت الضلالات والشبهات، حتّى بلغ الانحراف إلى عبادة غير الله؛ فعلى جانب توجّهت قلوب بالدعاء والرجاء والرغبة والرهبة إلى المخلوقين، وعلى جانب آخر توجّهت قلوب إلى التحاكم إلى أهواء وتشريعات الرجال وزبالات العقول والأفهام، نابذين وراء ظهورهم شريعة الرحمن.
﴿أَلَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزعُمُونَ أَنَّهُم آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَد أُمِرُوا أَن يَكفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيطَانُ أَن يُضِلَّهُم ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 60].
وكان من عدل الله أن يكافئ من انحرف عن طريقه وابتعد عن شرعه بالبعد عن أمنه ونعمه؛ ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ لَم يَكُ مُغَيِّرًا نِعمَةً أَنعَمَهَا عَلَىٰ قَومٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم﴾ [الأنفال: 53].
أمّا قديمًا وفي سنة 1820م؛ فلقد ظهر ضعف الأمارات الإسلاميّة في السودان عندما غزاها والي مصر العثمانيّ عميل فرنسا "محمد علي باشا".
[السُّودَانُ وَمُحَمَّد عَلِيّ بَاشَا]
المعلق: أرسل والي مصر العثمانيّ وعميل فرنسا محمد علي باشا حملاته العسكريّة إلى السودان في سنة 1820م، طامعًا في ثروات السودان، وراغباً في توسيع مملكته وتقويتها، حتّى يتسنّى له بترها من جسد الخلافة العثمانيّة.
يقول الأستاذ محمّد قطب في كتابه "واقعنا المعاصر": واحتضنته فرنسا احتضانًا كاملاً لينفّذ لها كلّ مخطّطاتها؛ أنشأت له جيشًا على أحدث الأساليب، ومجهزًا بأحدث الأسلحة المتاحة يومئذ، بإشراف سليمان باشا الفرنساوي، وأنشأت له أسطولاً بحريًّا على أحدث طراز يوم ذاك، وأنشأت له ترسانة بحريّة في دمياط، وأنشأت له القناطر الخيريّة لتنظيم عمليّة الريّ في مصر, هل كان هذا كلّه حباً في شخص محمّد علي؟ أو حباً في مصر؟!
المعلّق: لم تجد حملاته العسكريّة مقاومةً كبيرة, فسقطت "الأُبيّض" عاصمة مملكة "الفور" في أبريل للعام: 1821, ثم تلاها سقوط "سنّار" عاصمة سلطنة "الفونج" في يونيو من نفس العام.
لقد كانت فترة حكم محمد علي باشا وبنوه من بعده ظلامًا كالـحا ليس على أهل الإسلام في السودان فحسب؛ بل على مصر وجزيرة العرب والشام بعد استيلائه على الجميع, وفَرَض الضرائب والجبايات الباهضة, وحارب دعوة التوحيد والجهاد في جزيرة العرب.
وفُتِح الباب على مصراعيه لدخول البعثات التبشيرية؛ والتي كان أول دخول لها في السودان في عهد الخديوي عباس سنة 1848, وعيّن حفيده الخديوي إسماعيل الثاني الإنجليزي اليهودي "صمويل بيكيت" حاكمًا لمديرية الاستوائيّة في جنوب السودان, ثم الإنجليزي الصليبيّ "غردون باشا" حاكمًا لمديرية الاستوائيّة, ثم حكم دارا للسودان.
وأُدخِلت العلمانيّة عنوةً والثقافة الأوروبية إلى ديار المسلمين بابتعاث الصغار من الشباب إلى فرنسا لينهلوا من العلم والفساد, أو كليهما إن شاءوا من غير تنقيح, فكان ذلك تمهيدًا لاستبدال الشريعة بالقوانين الوضعية.
البعثات التنصيريّة في السودان
صمويل بيكيت غردون باشا
د/ عصام الدسوقي (مؤرّخ) : بعثات كثيرة جدًا جدًا، طبعًا أشهرها كانت سنة: (26) عشان اسم "رفاعة الطهطاوي", مع إن كل بعثة كان عليها إمام ليصلي بالمبعوثين, وهذه أيضاً حيلة من احتيالات محمد علي؛ بمعنى إيه؟ هو عارف إنه لما يذهب بأولاد المصريين بين قوسين (المسلمين) إلى بلاد الفرنجة, والناس المصريين عارفين الفرنجة هؤلاء من ساعة الحملة الفرنسية, قال هذا سوف يخسّر أولادنا, هو يريد يطمنهم، يقول لهم ماذا؟ يقول لهم لا يهمكم الإمام هذا هو.
المعلّق: فأصبح محمد علي باشا بذلك قدوةً لمن أتى بعده من الطواغيت والكرزايات.
لم يرضَ شعب السودان المسلم الأبيّ بذلك الذل والهوان؛ فثاروا عدة ثوراتٍ, كان أكبرها وأوسعها الثورةُ المهدية, والتي بدأت في أغسطس عام 1880, تزامنت هذه الثورة مع ثورة الشعب المصري على الخديوي توفيق؛ حفيد محمد علي في سبتمبر لعام 1881, رافضين الظلم، وتدخل الغرب الصليبيّ في شؤون البلاد الداخليّة, بعد أن فتح محمد علي وبنوه الباب واسعًا لهم.
فقررت بريطانيا أن تتدخل عسكريًا في مصر بغية احتلالها, متحججةً بحماية رعاياها ومصالحها من القلاقل التي تحدث فيها؛ فقصفت المدن بالمدافع، وقتّلت الأهالي, وانحاز لهم عميلهم الخديوي توفيق وطلب حمايتهم.
أما في السودان فقد توالت انتصارات الشعب السوداني حتى فُتِحت الخرطوم في يناير لعام 1885, وقتلوا ذبحًا الصليبي الإنجليزي "غردون باشا" حكم دار السودان في ذلك الوقت.
ولكن سرعان ما عاد الإنجليز مجددًا للسودان لاحتلاله ونهب ثرواته, بعد أن كان لهم احتلال مصر, وبعد استشعارهم لـضعف الدولة المهديّة آنذاك.
[السُّودَانُ وَالغَزوِ الصَّلِيبِيّ]
المعلق: أرسل الإنجليز حملتهم العسكرية إلى السودان بقيادة اللورد "كيتشنر" سنة: (1896), مستعينين في ذلك بدعم وجيش عملائهم من أحفاد محمد علي باشا.
الشيخ/ أيمن الظواهري: وفي عام 1896 أرسلت بريطانيا حملةً مكونةً من عدة فرقٍ بريطانية ومصرية بقيادة اللورد "كيتشنر", وبعد عدة معارك أبلى فيها أتباع الحركة المهدية بلاءً حسنًا، وأظهروا فيها ضروبًا من البسالة والشجاعة في مواجهة جيشٍ يتفوق عليهم بمعداته وأسلحته, بعد تلك المعارك واجه "كيتشنر" وجيشه المصري الإنجليزي جيش الخليفة عبد الله في معركة "كرري" الحاسمة شمالي أم درمان في سبتمبر من عام: (1898), واستطاع الجيش المصري الإنجليزي بمدافع وبنادق "الم****************م و" الـلي إم فلد", أن يهزم جيش الخليفة المسلح بالحراب والسيوف, وحصدت المدافع الرشاشة الإنجليزية جيش الحركة المهدية؛ فقتلت (11) ألفًا، وجرحت (16) ألفًا، بينما قُتِل من الجيش البريطاني المصري (48) رجلاً".
المعلّق: وقُتِل الخليفة عبد الله التعايشي بعد ذلك في معركة "أم دبيكرات", لتسقط الدولة المهدية، ويحلّ محلها "الحكم الثنائي الإنجليزي المصري" الذي أُبرِمت اتفاقيته في (19) من يناير للعام: (1899).
كرومر
الشيخ/ أيمن الظواهري: الحكم الثنائي باختصار؛ هو ما نشأ عن الاتفاقية التي أعدها "كرومر" لحكم السودان, وسميت باتفاقية: "الحكم الثنائي المصري الإنجليزي", وفيها تقرّر أن يرشح البريطانيون حاكمًا عامًا للسودان يعيّنه خديوي مصر, وكان الحكم ثنائيًا بالاسم، بريطانيًّا بالفعل, واستمر قرابة ستين 60 عامًا".
المعلّق: فأنفت نفوس الأباة ظلم المحتل وبغيه, فقامت الثورات في شتى بقاع السودان، فقوبلت بالقتل والقمع من قبل الإنجليز, وكان من أكبر تلك الثورات؛ ثورة سلطان دارفور، السلطان "علي دينار" في عام 1916, والتي انتهت بقتله واحتلال دارفور.
نشيد:
أمامًا أمامًا جنود الفــــــــــــــــــــــداء
اعدّوا الشباب ليوم النـــــــــــــــداء
أعيدوا أعيدوا إلى الحق سلطانه
ودكّوا معاقل جنود العـــــــــــــــداء
فنحن جنــــــــــــــــــــــــــودٌ لنا غـــــايةٌ
إلى الله قمنا لنصر الهــــــــــــــدى
المعلق: ولا تزال أرحام الأمهات تنجب لنا في دارفور وفي جميع السودان أباةً شمّ الأنوف؛ يوالون المؤمنين ويعادون الكافرين من اليهود والنصارى والمرتدين, وشذّ من هؤلاء الصادقين من ارتمى في أحضان الكافرين ورضع من ألبانهم وثقافاتهم.
عبد الواحد محمد نور "رئيس حركة تحرير السودان": وهناك مكتب فُتِح لـ"حركة تحرير السودان" في إسرائيل, لأن لوائحنا الداخلية في حركة تحرير السودان يجيز للجميع أينما كانوا في أي مكانٍ في العالم أن يفتحوا مكتبًا لهم وفق قوانين البلد الموجودون فيه.
المعلّق: لم يكن دين العمالة والخيانة وليد اليوم, فلقد عمد المحتل الإنجليزي قديمًا إلى تجنيد ضعاف النفوس من أبناء السودان، والسودان منهم بريء, فقرّبوا من والاهم من زعماء القبائل والطوائف الدينيّة, ونصّبهم مدراء للإدارات الأهلية, ليعينوهم على حكم البلاد وجمع الجبايات, بينما عادى وأذلّ من عاداهم من القبائل, متبعًا في ذلك سياسة "فرّق تسد", التي لازال حكامُ العصر يستخدمونها بين أهلنا في دارفور.
ومن أبرز وأغرب ما تشابه به مع حكام العصر وطواغيت الزمان, إنشاؤه لـما أطلق عليه "لجنة العلماء" لإصدار الفتاوى بنكهةٍ إسلامية ورحٍ صليبية , فصاروا بذلك شرُّ سلفٍ لشرِّ خلف من علماء السوء وفقهاء التسول.
علي المرغيني في احتفاله مع المحتل الصليبي بالمولد
عبد الرحمن المهدي؛ مع رئيس الوزراء البريطاني تشرشل الحاكم العام البريطاني مع عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني
المعلق: وفي عام 1914؛ اندلعت الحرب العالميّة الأولى بين مملكة بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية على جانب والذين أطلق عليهم دول الحلفاء, بينما كان على الجانب الآخر؛ ألمانيا القيصرية وإمبراطورية النمسا والمجر والسلطنة العثمانية والذين أطلق عليهم دول الوسط.
دخلت السلطنة العثمانية الحرب العالميّة وهي في ضعفٍ ديني ودنيوي؛ وقد كانت مقاليد حكمها في ذلك الوقت بيد "جمعية الإتحاد والترقيّ" العلمانيّة لتتوالى هزائمها.
وفي عام 1917 احتلّت القوات البريطانية فلسطين, لتسلّم بعد ذلك لليهود في مقابل ما دفعوه لبريطانيا من أموال وفقًا لوعد وزير الخارجية البريطاني "بلفور".
وفي عام 1918 سقطت الدولة العثمانية باحتلال عاصمتها إسطنبول, وتم تقاسم واحتلال ما تبقى من ديار المسلمين على أيدي الحلفاء وفقًا لمعاهدة "سايكس بيكو", التي أبرمت في عام 1916, لتظهر لنا هذه الحدود السياسية التي نراها اليوم, والتي قسّمت عالمنا الإسلامي إلى دويلاتٍ صغيرة.
وفي عام 1919 وبعد انتهاء الحرب، سافر وفدٌ من السودان إلى بريطانيا لتهنئة مليكها "جورج الخامس" على انتصاره واحتلاله لما تبقى من ديار المسلمين, بعد ما قدموا له الدعم والولاء اللازمين في حربه.
اقتباس من كتاب: وفي يوليو أرسل وفدٌ سوداني لبريطانيا بهدف تهنئة مليكها على الانتصار في الحرب, وتكوّن من ثلاثةٍ من رؤساء الطوائف وهم: "علي الميرغني, ويوسف الهندي, وعبد الرحمن المهدي", ومن ثلاثة علماء هم: "علي الطيب أحمد هاشم (المفتي), و أبي القاسم أحمد هاشم (رئيس لجنة العلماء), وإسماعيل الأزهري (قاضي دارفور), وأربعةٍ من زعماء القبائل.
المعلّق: أما ما جرى بين ذلك الوفد وبين ملك بريطانيا, فكان مما تشمئزّ له القلوب, وتنكره سليمات الأفهام والعقول, ولقد حفظ لنا التاريخ بعضًا منه ليكون عبرةً للمعتبرين, وتذكرةً للمتذكرين.
الوفد السوداني الذي التقى بملك بريطانيا "جورج الخامس" في يوليو عام (1919م)
فقد جاء في كتاب "السودان من الحكم الثنائي إلى انتفاضة رجب" ما نصه: وقف أعضاء الوفد صفًا واحدًا, ثم تقدّموا حتى صاروا على مقربة من العرش, فحيّوا ملك بريطانيا، وألقى علي الميرغني خطابًا باسم الوفد, أعرب فيه عن بهجتهم بشرف المثول أمام الملك؛ والتمس باسم أهالي السودان, أن أقدّم بكل خضوعٍ لجلالتكم تهانينا القلبية على الانتصار المجيد الذي أحرزته جنودكم, إن ثبات جنود الحلفاء الذي دعا إلى انهزام العدو انهزامًا تامًا, وانتصاركم الباهر؛ أوجب الإعجاب العظيم من أهل السودان, وأفعم قلوبهم سرورًا, وقد تحققوا من أن هذه الحرب تختلف عما سبقها من الحروب, لأنها تفصل في مصير الشعوب الضعيفة, وكانت حربًا بين الحق والباطل.
المعلق: وتحدث في خطابه عن مؤازرة السودان للحلفاء, ووقفته معهم, وما قدمه من المجهود الحربي من غير منٍّ وأذى, وقال: إن القليل الذي أعطيناه إنما هو ثمرة ما زرعته حكومة جلالتكم من الإحسان, فكانت ثمرة الإحسان الشكران, جعلتم العدل أساس ملككم الواسع, فسادت روح العدالة والسلام سائر أنحاء البلاد, إن حياة أهل السودان في المستقبل تتوقف على زيادة ارتباط البلاد بإمبراطورية جلالتكم, لذا نضرع إلى الله العلي القدير أن يمنح جلالتكم العمر الطويل المقرون بالسعادة, وأن يحفظ بريطانيا العظمى رافعة لواء الحرية والمدنية في العالم, لتخفق الراية البريطانية طويلاً على السودان ناشرةً السلام.
وحين مثل "عبد الرحمن المهدي" أمام الملك قدّم له سيفًا مقبضه وحمائله من الذهب الخالص, وهو "سيف النصر"؛ سيف والده الإمام المهدي, وقدمه دليلاً على خضوعه وولائه, وألقى كلمةً قال فيها:إنه يقدّم ذلك السيف التاريخيّ دليلاً على ولائه للعرش, ولكي يكون تسليمه لجلالتكم دليلاً قاطعًا ثابتًا لرغبتي في أن تجعلوني وجميع أتباعي وأهلي بالسودان في دائرة سلمكم وعطفكم بعد مرور هذه السنين الطويلة التي برهنتُ فيها لرجالكم العاملين بالسودان عن الإخلاص بالعمل في ظروف مختلفة, وفي السودان الآن أعدادٌ كبيرةُ من المواطنين تنتظر عودتي حائزًا على جزيل عطفكم, وهم يرجون أن تعتبروهم بين رعاياكم المخلصين.
ويردّ عليه الملك مقدرًا ما أسماه: "عاطفة الولاء" التي دعته إلى تقديم السيف كدليل إخلاصكم وعواطفكم نحوي: وإني أقبله منكم وأعيده لكم و لورثائكم من بعدكم؛ للدفاع عن عرشي وإمبراطوريتي, وبصفة ذلك مني دليلاً على قبول خضوعكم وخضوع أتباعكم.
ولم يغادر الوفد بريطانيا حتى بذر مع الصليبيين أول بذور فصل السودان عن مصر, إنفاذاً للمخطط الصليبيّ في استمرار تفتيت وتمزيق العالم الإسلامي.
اقتباس من كتاب: وفي لندن عبّر رجال الوفد عن عدم ثقتهم في نوايا المصريين, ومعارضتهم استمرار النفوذ المصري بالسودان, ورغبتهم في أن يحكموا بسلطة البريطانيين, وفي هذا المنحنى كانوا يعبّرون عن صوت ورغبات وسياسة الإدارة البريطانية.
المعلّق: ولم يقتصر كيد بريطانيا على ما سبق, بل باشرت بإنشاء الطرق والجسور والمدارس لإيهام الشعب السوداني أنها تسعى في مصلحته, ولكن كان الأمر خلاف الظاهر؛ فكان ينشأ الطرق والجسور لتسهيل نقل ثروات السودان إلى بريطانيا.
وأما سرّ المدارس التعليمية؛ فيكفينا ما نقله الشيخ "محمد قطب" في كتابه: "واقعنا المعاصر" من كلام اللورد "كرومر" المندوب السامي البريطاني في مصر:
وحين بدأ حكمه في مصر شكاه المبشرون إلى الحكومة البريطانية بدعوى أنه يضيّق عليهم, فلما أرسلت الحكومة البريطانية الشكوى إليه ليرد عليها, جمع المبشرين وقال لهم: هل تتصورون أنني يمكن أن أضيّق عليكم؟! ولكنكم تخطفون الأطفال من الشوارع, وتخطفون الرجال لتنصيرهم فتستفزون المسلمين فيزدادون تمسكًا بدينهم, ولكني اتفقت مع شاب تخرّج قريبًا في كلية اللاهوت "Trinity college" بلندن ليضع سياسة تعليميّة ستحقق جميع أهدافكم، هكذا يكون العمل البطيء الأكيد المفعول.
المعلّق: فكان ذلك الشاب هو القس "دان لوب" الذي عينه "كرومر" مستشارًا لوزارة المعارف المصرية، والذي كان أظهر كيدا وأبلغ مكرا من كل ذلك قانون "المناطق المقفولة" الذي أنفذه المحتل الصليبيّ على جنوب السودان
الشيخ/ أيمن الظواهري: وفي مدة "الحكم الثنائي" جعل البريطانيون من جنوب السودان منطقةً مقفولة بنص قانون "المناطق المقفولة", يمنع دخول السودانيين الشماليين والمصريين إليه إلا في مهامٍ رسمية أو بتصريحاتٍ خاصة, بينما كفل الحرية التامة لدخول الجنوب والتجول فيه للأروبيين, وحظر على الجنوبيين محاكاة الشماليين في الزي أو نمط الحياة, وتم إخلاء الجنوب من العرب والمسلمين, وحوربت اللغة العربية, ومنعت الأسماء الإسلامية, وقُصِر التعامل على الإنجليزية, وحوربت الشعائر والعادات الإسلامية, وكانت الحكومة تعاقب بشدة كل من يضبط وهو ينطق العربية أو يؤدّي شعائر إسلامية, وفُتِح المجال واسعًا للنشاط التبشيري, وبذلك بذر هذا القانون بذرة فصل جنوب السودان عن شماله.
المعلق: وعلى الرغم من كل ذلك المكر السيء, فقد عادت الحرب العالمية مجددًا بين الصليبيين أنفسهم في عام 1939, لتكون الثانية بين دول المحور وعلى رأسهم ألمانيا النازية, وإيطاليا الفاشية, وإمبراطوريّة اليابان, وبين دول الحلفاء وعلى رأسهم الاتحاد السوفيتي الشيوعي الملحد, والدول الرأسمالية وهي أمريكا, وبريطانيا, وفرنسا، ولكن هذه المرّة كانت الحرب أشدّ فتكاً وقتلاً ودمارًا على الجانبين ليكون المنتصر فيها أفضل الخاسرين.
﴿وَلَقَد أَرسَلنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبلِكَ فَأَخَذنَاهُم بِالبَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَولَا إِذ جَاءَهُم بَأسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَـٰكِن قَسَت قُلُوبُهُ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطَانُ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحنَا عَلَيهِم أَبوَابَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذنَاهُم بَغتَةً فَإِذَا هُم مُّبلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ القَومِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالـحَمدُ لِلَّـهِ رَبِّ العَالَمِينَ (45)﴾ [الأنعام].
انتصر الحلفاء على دول المحور في عام 1945م ، وقاموا في نفس العام بإنشاء منظمّة الأمم المتّحدة، ليُنصّبوا أنفسهم زعماء دائمين لمجلس أمنها، والذي كانت بيده سلطة المنظّمة الفعليّة والصلاحيّة المطلقة في استعمال القوّة المسلّحة وفقًا لقوانين المنظّمة، ضاربين في ذلك بديمقراطيّتهم التي كانوا يتشدّقون بها عرض الحائط، وما كان ذلك إلّا محافظة على انتصارهم وهيمنتهم وظلمهم للمستضعفين من شعوب العالم.
وعلى الرغم من انتصار دول الحلفاء إلا أنّ حجم الخراب والدمار الذي أوقعه القصف الألماني ببريطانيا وفرنسا أدّى إلى تدمير بنيتهما التحتيّة وانهيار اقتصادهما لتفقدا بذلك مكانتهما العالميّة لصالح أمريكا الرأسماليّة والاتحاد السوفياتي الشيوعي.
رتشارد داودن "الجمعيّة الإفريقيّة الملكيّة": أفلست بريطانيا بفعل الحرب العالميّة الثانيّة ولم تعد قادرة على تحمّل نفقات إدارة مستعمراتها، كان جدّي حينئذٍ يعمل في ساحل الذهب الذي أصبح يعرف بـ"غانا"، وكان يرسل أرزّا لوالديَّ في انجلترا الذين لم يريَا أرزّا أو فولا سودانيًّا منذ ما قبل خمس سنوات أو ستّ.
المعلّق: وبذلك قرّرت بريطانيا الرحيل من السودان طواعيّة، ولكن لم تكن لتترك السودان بثرواته هكذا من غير أن تخلّف وراءها في حكمه من يخلص لها الولاء، ولم تجد لحكم السودان أنسب من أولئك الذي أظهروا لمليكها الولاء في لندن ومن نحا نحوهم.
[قِصّةُ الِاستِقلَالُ]
المعلّق: وتمهيداً لإعداد من يخلفها في السودان وافقت بريطانيا على إنشاء ما عُرِف بــ"مؤتمر الخريجين" في عام 1938م، والذي كان أداةً لتفريخ الأحزاب السياسيّة التي نراها اليوم، والتي كان على رأسها "حزب الأمّة"، الذي كان مدعومًا من "عبد الرحمن المهدي" زعيم "طائفة الأنصار"، و"الـحزب الوطنيّ الاتحادي" المدعوم من "علي الميرغني" زعيم طائفة الختميّة.
وفي ديسمبر لعام 1948م؛ قامت بريطانيا بإنشاء أوّل برلمان تشريعيّ سودانيّ على النمط البريطاني لملئه بتلك الأحزاب السياسيّة.
وفي فبراير لعام 1953م؛ تمّ الاتفاق بين الإدارتين البريطانيّة والمصريّة على تصفية "الحكم الثنائي" في فترة انتقاليّة يتمّ فيها إجراء انتخابات لذلك البرلمان، وتنتهي بمنح السودان حقّ تقرير مصيره في الوحدة مع مصر أو الاستقلال والانفصال عنها.
وبناءً على ذلك وفي خلال شهري نوفمبر وديسمبر من نفس العام، أجريت الانتخابات والتي انتهت بحصول "الحزب الوطنيّ الاتحاديّ" على غالبيّة مقاعد البرلمان وعلى رئاسة مجلس الوزراء ليكون "إسماعيل الأزهريّ" أوّل رئيسٍ للوزراء، وكان البرلمان يضمّ كذلك ممثّلين لمختلف الأحزاب السياسيّة من شمال السودان وجنوبه.
وفي أغسطس لعام 1955؛ تمرّد نصارى الجنوب التابعين لقوّة دفاع السودان في "توريت" إحدى مدن السودان رافضين نتيجة الانتخابات؛ فغدروا بالمسلمين هناك وقتلوا منهم المئات تحت مرأى ومسمع حكومة الاحتلال البريطاني، ليظهر بذلك أوّلاً نتاج ما بذرته بريطانيا من قانون "المناطق المقفولة"ـ وليظهر ثانيًا فشل الديمقراطيّة في أولى جولاتها في بلد متعدّد القوميّات والأعراق كالسودان.
وفي ديسمبر من نفس العام؛ قام البرلمان بالتصويت على استقلال السودان وانفصاله عن مصر, إرضاءً للرغبة البريطانية في تفتيت العالم الإسلاميّ، ثمّ قامت الأحزاب في داخل البرلمان, بتشريع أوّل دستور علمانيّ على النمط البريطانيّ.
وفي الأوّل من يناير عام 1956م؛ تمّ الاحتفال بالاستقلال بمباركة بريطانيا، وهكذا رحلت بريطانيا لتحلّ محلّها تلك الأحزاب على حكم السودان.
[حُكُومَاتُ مَا بَعدَ الِاستِقلَالِ]
المعلّق: كانت الأحزاب السياسيّة منقسمة منذ البداية حول سياساتها الخارجيّة؛ فمنهم من كان يفضّل موالاة بريطانيا ووريثتها أمريكا والعمل تحت لوائهما، بينما كان الآخرون يفضّلون الاتحاد السوفيتي الشيوعي الملحد.
أمّا داخليًّا؛ فقد كانت همّة الأحزاب مصروفة إلى التآمر والتنازع فيما بينها من أجل الوصول إلى السلطة بعيدًا عن السعي لحلّ مشكلة الجنوب أو مشاكل السودان الأخرى، وكان البرلمان كلّما قام بتشكيل حكومة حزبيّة إلّا ويستبدلها بأخرى، وكان آخرها تلك التي ترأسها "عبد الله خليل" من "حزب الأمّة"، والذي اشتدّت في عهده أزمة البلاد الاقتصاديّة لتقوم المظاهرات ضدّ حكومته.
وعندما سعى البرلمان لسحب الثقة من حكومته قام بالاتصال بالفريق "عبّود" طالبًا منه استيلاء الجيش على السلطة، فقبل "عبّود" العرض وتمّ الانقلاب العسكريّ في نوفمبر لعام 1958م، لتفشل الديمقراطيّة في حكم السودان مجدّدا وللمرّة الثانية.
حضي الانقلاب بتأييد الرأي العام في بادئ الأمر لـمّا ضاق الناس ذرعًا بفوضى الأحزاب، ولكن سرعان ما تحوّل الأمر عندما قام "عبّود" باحتكار السلطة ونقل حقّ التشريع من البرلمان للمجلس الأعلى للقوّات المسلّحة، الذي نصّب نفسه رئيسًا له.
وفي عهده ولد في الجنوب التنظيم العسكريّ للأنانيا المدعوم من قبل الإرساليّات التبشيريّة، والذي كان يدعو إلى فصل الجنوب عن شمال السودان، وفي عهده كذلك ارتفعت الأسعار وانتشرت البطالة.
وتحت كلّ ذلك الضغط ما كان للثورة إلّا أن تنفجر في أكتوبر لعام 1964م، وانتهت الثورة بخضوع عبّود لها، وعلى الرغم من كثرة التضحيات والدماء التي بذلها الشعب السودانيّ لإنجاح ثورته، إلّا أنّ الأحزاب استطاعت قطف ثمار الثورة لتعود مجدّدًا إلى برلمانها ولتحكم البلاد والعباد بديمقراطيّتها وبنفس فوضاها و تآمرها وفشلها.
وهكذا مع تأزّم الأوضاع الأمنية والاقتصاديّة من جرّاء فوضى الأحزاب؛ نجح تنظيم الضبّاط الأحرار بقيادة العقيد "جعفر محمّد نميري" في الاستيلاء على السلطة عبر انقلاب عسكريّ في مايو لعام 1969م، لتفشل الديمقراطيّة الحزبيّة مجدّدًا وللمرّة الثالثة.
قامت حكومة النميري في مارس لعام 1972م بتوقيع اتفاقيّة "أديس أبابا" مع المتمرّدين الجنوبيين بوساطة من أثيوبيا ومجمع الكنائس العالمي؛ والذي نصّ على وقف إطلاق النار، ومنح نصارى الجنوب حكما ذاتيًّا واستيعاب أفراد حركة "الأنانيا" في القوات المسلّحة السودانيّة.
وعلى الرغم من تبنّي النظام الجديد في أوّل أيّامه للفكر الاشتراكي العلمانيّ إلّا أنّه وفي آخر أمره وفي سبتمبر لعام: 1983م قام بتطبيق بعض قوانين الشريعة الإسلاميّة، حيث حظرت الخمور وطبّقت الأحكام الحديّة، وكان ذلك سابقة لم يشهدها السودان منذ حقبة الاحتلال البريطانيّ، فاستشاط لذلك غضب الكنيسة لتقوم بإثارة الفتن ودعم التمرّد في جنوب السودان مجدّدًا.
فتمرّدت فرقة عسكريّة جنوبيّة في حامية "بور"، فأرسلت لها الحكومة ضابطًا جنوبيًّا في الجيش هو "جون قرنق" ليثنيها عن تمرّدها، إلّا أنّه بدلاً من ذلك انضمّ إليهم ليصبح قائدهم، ولينشأ "الجيش الشعبيّ" لتحرير السودان، وجناحه المدنيّ "الحركة الشعبيّة" والذين كانوا أداة لحرب الإسلام وأهله.
[حقيقة حقد الحركة الشعبيّة على العرب والمسلمين]
الهالك يوسف كوه (قيادي في الحركة الشعبيّة):الحركة الشعبيّة هذه ضد الإسلام والعروبة.
اللواء في الجبهة الثوريّة أحمد العمدة "قطاع الشمال": يأمر باستهداف المزارعين في ولاية النيل الأزرق.
المعلّق: وفي إبريل لعام 1985م؛ قامت الأحزاب باستغلال الأزمة الاقتصاديّة التي كانت تمرّ بها البلاد في إثارة المظاهرات، والتي سرعان ما تحوّلت إلى ثورة عارمة انتهت باستيلاء وزير الدفاع "عبد الرحمن سوار الذهب" على السلطة، ليقوم بعد عام من ذلك بتسليم مقاليد الحكم للأحزاب السياسيّة فكانت من نصيب "حزب الأمّة" بقيادة "الصادق المهديّ".
وفي ظلّ حكم الأحزاب المتميّز بالفوضى والصراع على السلطة؛ منيت القوات المسلحة بهزائم شتّى من قبل الحركة الشعبيّة لتحرير السودان وتدهورت أوضاع البلاد الاقتصاديّة.
عمر نور الدائم "وزير ماليّة حكومة صادق المهدي": التجربة من الناحية الشخصية مريرة، يعني أنا أقول هذا أيضًا من الصراحة ومن الحقيقة؛ لا يعجبني كل الأداء الماشي في البلاد، وتكرارا ومراراً قلت هذا سواءً في الجمعيّة التأسيسية، في المنابر السياسيّة، في الصحافة، في كل المنابر؛ ليس عندي أيّ رضا بما يدور، وأنه بالأخص من ناحية إدارة البلاد تردّي بصورة مزعجة بشكل غير معقول، وأنه أصبحت إداراتنا ضعيفة وهشّة ولا تقضي واجبها من جميع المستويات".
المعلّق: أمّا بـالفوضى المعهودة؛ قام "الـحزب الاتحاديّ الديمقراطي" بالتوقيع على اتفاق مع "الحركة الشعبيّة" لوقف إطلاق النار في مقابل إبطال قوانين الشريعة الإسلاميّة، متجاهلاً في ذلك رئيس الوزراء الصادق المهدي، والذي قام برفض الاتفاق في بادئ الأمر إلّا أنّه قام بالموافقة عليه إرضاءً للحركة الشعبيّة.
[الصَادِقٌ المَهدِيّ يَتَعَهَّدُ بِإِلغَاءِ قَوَانِينَ الشَّرِيعَةِ بِالضَّربَةِ القَاضِيَةِ]
ــــ عليه من الله ما يستحق ــــ
الصادق المهديّ: شُرّعت في سبتمبر 1983م تلك القوانين التي صار اسمها التجاري إذا جاز التعبير "قوانين سبتمبر"، فلذلك الذي فعلناه هو أنّنا بدأنا حركة من إلغاء القوانين تدريجيا شملت حتّى الآن أكثر من 20% من تلك القوانين، ولكن هناك الآن برنامج لإلغائها أو لإلغاء البقيّة بصورة واحدة، فالموقف هو إذن أنّنا ماضون في هذا الطريق، الآن عن طريق النقط كما يقول الملاكمون، وبعد حين عن طريق الضربة القاضية كما يقولون أيضا, بعد أن يكتمل الاتفاق على البديل الذي أشرت إليه.
المعلّق: وفي خضم هذه الفوضى، وفي يونيو لعام 1989م؛ قامت الجبهة الإسلاميّة القوميّة بزعامة "حسن الترابيّ" بانقلاب عسكريّ مقنّع الوجه والهدف، واجهته العميد في الجيش السوداني "عمر البشير"، معلنة ميلاد ما يسمّى ثورة الإنقاذ.
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى