- عز الدينرائع فوق العادة
- الجنس : عدد المساهمات : 670
تاريخ التسجيل : 01/03/2011
العمر : 49
العمل/الترفيه : بحري قديم
المزاج : يا من لجرح كلما سكنته ** لكأ الحشى بمواجع ومآسي // لو انه في الرأس كنت ضمدته ** لكنه في القلب لا في الرأسِ
منزلة (الصبر).
الثلاثاء 02 أغسطس 2011, 4:23 am
منزلة الصبر
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصبر
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا وهو واجب بإجماع الأمة وهو نصف الإيمان فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر
وهو مذكور في القرآن على ستة عشر نوعا
الأول: الأمر به نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [ البقره: 153 ] وقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [ البقره: 45 ] وقوله: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [ آل عمران: 20 ] وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [ النحل: 127 ]
الثاني: النهي عن ضده كقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [ الأحقاف: 35 ] وقوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [ الأنفال: 15 ] فإن تولية الأدبار: ترك للصبر والمصابرة وقوله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} 0 [ محمد: 33 ] فإن إبطالها ترك الصبر على إتمامها وقوله: فلا تهنوا ولا تحزنوا [ آل عمران: 139 ] فإن الوهن من عدم الصبر
الثالث: الثناء على أهله كقوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} الآية [ آل عمران: 17 ] وقوله: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [ البقره: 177 ] وهو كثير في القرآن
الرابع: إيجابه سبحانه محبته لهم كقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [ آل عمران: 146 ]
الخامس: إيجاب معيته لهم وهي معية خاصة تتضمن حفظهم ونصرهم وتأييدهم ليست معية عامة وهي معية العلم والإحاطة كقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ الأنفال: 46 ] وقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ البقره: 249 الأنفال: 69 ]
السادس: إخباره بأن الصبر خير لأصحابه كقوله: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [ النحل: 126 ] وقوله: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [ النساء: 25 ]
السابع: إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم كقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ النحل: 96 ]
الثامن: إيجابه سبحانه الجزاء لهم بغير حساب كقوله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ الزمر: 10 ]
التاسع: إطلاق البشرى لأهل الصبر كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [ البقره: 155 ]
العاشر: ضمان النصر والمدد لهم كقوله تعالى: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [ آل عمران: 125 ] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: واعلم أن النصر مع الصبر
الحادى عشر: الإخبار منه تعالى بأن أهل الصبر هم أهل العزائم كقوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [ الشورى: 43 ]
الثاني عشر: الإخبار أنه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة إلا أهل الصبر كقوله تعالى: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [ القصص: 80 ] وقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [ فصلت: 35 ]
الثالث عشر: الإخبار أنه إنما ينتفع بالآيات والعبر أهل الصبر كقوله تعالى لموسى: {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [ إبراهيم: 5 ] وقوله في أهل سبأ: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [ سبأ: 19 ] وقوله في سورة الشورى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [ الشورى: 3233 ]
الرابع عشر: الإخبار بأن الفوز المطلوب المحبوب والنجاة من المكروه المرهوب ودخول الجنة إنما نالوه بالصبر كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [ الرعد: 2324 ]
الخامس عشر: أنه يورث صاحبه درجة الإمامة سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ثم تلا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [ السجده: 24 ]
السادس عشر: اقترانه بمقامات الإسلام والإيمان كما قرنه الله سبحانه
باليقين وبالإيمان وبالتقوى والتوكل وبالشكر والعمل الصالح والرحمة ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له كما أنه لا جسد لمن لا رأس له وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خير عيش أدركناه بالصبر وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: أنه ضياء وقال: من يتصبر يصبره الله وفي الحديث الصحيح: عجبا لأمر المؤمن ! إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له
وقال للمرأة السوداء التي كانت تصرع فسألته: أن يدعو لها: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك فقالت: إني أتكشف فادع الله: أن لا أتكشف فدعا لها وأمر الأنصار رضي الله تعالى عنهم بأن يصبروا على الأثرة التي يلقونها بعده حتى يلقوه على الحوض وأمر عند ملاقاة العدو بالصبر وأمر بالصبر عند المصيبة وأخبر: أنه إنما يكون عند الصدمة الأولى
وأمر المصاب بأنفع الأمور له وهو الصبر والاحتساب فإن ذلك يخفف مصيبته ويوفر أجره والجزع والتسخط والتشكى يزيد في المصيبة ويذهب الأجر وأخبر أن الصبر خير كله فقال: ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع: من الصبر
فصل و الصبر في اللغة: الحبس والكف ومنه: قتل فلان صبرا
إذا أمسك وحبس ومنه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [ الكهف: 28 ] أي احبس نفسك معهم
فالصبر: حبس النفس عن الجزع والتسخط وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن التشويش وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله وصبر عن معصية الله وصبر على امتحان الله فالأولان: صبر على ما يتعلق بالكسب والثالث: صبر على ما لا كسب للعبد فيه
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها: أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر وأما صبره عن المعصية: فصبر اختيار ورضى ومحاربة للنفس ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة فإنه كان شابا وداعية الشباب إليها قوية وعزبا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته وغريبا والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله ومملوكا والمملوك أيضا ليس وازعه كوازع الحر والمرأة جميلة وذات منصب وهي سيدته وقد غاب الرقيب وهي الداعية له إلى نفسها والحريصة على ذلك أشد الحرص ومع ذلك توعدته إن لم يفعل: بالسجن والصغار ومع هذه الدواعي كلها: صبر اختيارا وإيثارا لما عند الله وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه
وكان يقول: الصبر على أداء الطاعات: أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل فإن مصلحة فعل الطاعة: أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية ومفسدة عدم الطاعة: أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية وله رحمه الله فى ذلك مصنف قرره فيه بنحو من عشرين وجهاليس هذا موضع ذكرها والمقصود: الكلام على الصبر وحقيقته ودرجاته ومرتبته والله الموفق
فصل وهو على ثلاثة أنواع: صبر بالله وصبر لله وصبر مع الله
فالأول: أول الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبر وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [ النحل: 127 ] يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر والثاني: الصبر لله وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأعراض والثالث: الصبر مع الله وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ومع أحكامه الدينية صابرا نفسه معها سائرا بسيرها مقيما بإقامتها يتوجه معها أين توجهت ركائبها وينزل معها أين استقلت مضاربها فهذا معنى كونه صابرا مع الله أي قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابه وهو أشد أنواع الصبر وأصعبها وهو صبر الصديقين قال الجنيد: المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن وهجران الخلق في جنب الله شديد والمسير من النفس إلى الله صعب شديد والصبر مع الله أشد وسئل عن الصبر فقال: تجرع المرارة من غير تعبس
قال ذو النون المصري الصبر التباعد من المخالفات والسكون عند تجرع غصص البلية وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة
وقيل: الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب وقيل: هو الفناء في البلوى بلا ظهور ولا شكوى وقيل: تعويد النفس الهجوم على المكاره وقيل: المقام مع البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية وقال عمرو بن عثمان: هو الثبات مع الله وتلقي بلائه بالرحب والدعة وقال الخواص: هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة وقال يحيى بن معاذ: صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين واعجبا ! كيف يصبرون وأنشد:
الصبر يجمل في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يجمل
وقيل: الصبر هو الاستعانة بالله وقيل: هو ترك الشكوى وقيل:
الصبر مثل اسمه مر مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
وقيل: الصبر أن ترضى بتلف نفسك في رضى من تحبه كما قيل:
سأصبر كي ترضى وأتلف حسرة وحسبي أن ترضي ويتلفني صبري
وقيل: مراتب الصابرين خمسة: صابر ومصطبر ومتصبر وصبور وصبار فالصابر: أعمها والمصطبر: المكتسب الصبر المليء به والمتصبر: المتكلف حامل نفسه عليه والصبور: العظيم الصبر الذي صبره أشد من صبر غيره والصبار: الكثير الصبر فهذا فى القدر والكم والذي قبله في الوصف والكيف وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصبر مطية لا تكبو
وقف رجل على الشبلي فقال: أي صبر أشد على الصابرين فقال: الصبر في الله قال السائل: لا فقال: الصبر لله فقال: لا فقال: الصبر مع الله فقال: لا قال الشبلي: فإيش هو قال: الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف وقال الجريري: الصبر أن لا يفرق بين حال النعمة وحال المحبة مع سكون الخاطر فيهما والتصبر: هو السكون مع البلاء مع وجدان أثقال أثقال المحنة قال أبو علي الدقاق: فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته فإن الله مع الصابرين وقيل في قوله تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [ آل عمران: 200 ] إنه انتقال من الأدنى إلى الأعلى ف الصبر دون المصابرة و المصابرة دون المرابطة و المرابطة مفاعلة من الربط وهو الشد وسمى المرابط مرابطا: لأن المرابطين يربطون خيولهم ينتظرون الفزع ثم قيل لكل منتظر قد ربط نفسه لطاعة ينتظرها: مرابط ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط وقال رباط يوم فى سبيل الله: خير من الدنيا وما فيها وقيل: اصبروا بنفوسكم على طاعة الله وصابروا بقلوبكم على البلوي في الله ورابطوا بأسراركم على الشوق إلى الله وقيل: اصبروا في الله وصابروا بالله ورابطوا مع الله وقيل: اصبروا على النعماء وصابروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء فالصبر مع نفسك و المصابرة بينك وبين عدوك و المرابطة الثبات وإعداد العدة وكما أن الرباط لزوم الثغر لئلا يهجم منه العدو فكذلك
الرباط أيضا لزوم ثغر القلب لئلا يهجم عليه الشيطان فيملكه أو يخربه أو يشعثه وقيل: تجرع الصبر فإن قتلك قتلك شهيدا وإن أحياك أحياك عزيزا وقيل: الصبر لله غناء وبالله تعالى بقاء وفي الله بلاء ومع الله وفاء وعن الله جفاء والصبر على الطلب عنوان الظفر وفي المحن عنوان الفرج
وقيل: حال العبد مع الله رباطه وما دون الله أعداؤه وفي كتاب الأدب للبخارى سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: الصبر والسماحة ذكره عن موسى بن اسماعيل قال: حدثنا سويد قال: حدثنا عبدالله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن جده فذكره وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها فإن النفس يراد منها شيئان: بذل ما أمرت به وإعطاؤه فالحامل عليه: السماحة وترك ما نهيت عنه والبعد منه فالحامل عليه: الصبر
وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه بالصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل فسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه و الصفح الجميل هو الذى لا عتاب معه و الهجر الجميل هو الذي لا أذى معه وفي أثر اسرائيلي أوحى الله إلى نبي من أنبيائه: أنزلت بعبدى بلائي فدعاني فما طلته بالإجابة فشكاني فقلت: عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك وقال ابن عيينة في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [ السجدة: 24 ] قال: أخذوا برأس الأمر فجعلهم رؤساء وقيل: صبر العابدين أحسنه: أن يكون محفوظا وصبر المحبين أحسنه: أن يكون مرفوضا كما قيل:
تبين يوم البين أن اعتزامه على الصبر من إحدى الظنون الكواذب
والشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر فإن يعقوب عليه السلام وعد بالصبر الجميل والنبي إذا وعد لا يخلف ثم قال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [ يوسف: 86 ] وكذلك أيوب أخبر الله عنه: أنه وجده صابرا مع قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [ الأنبياء: 83 ]
وإنما ينافي الصبر شكوى الله لا الشكوى إلى الله كما رأى بعضهم رجلا يشكو إلى آخر فاقة وضرورة فقال: يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك ثم أنشد :
وإذا عرتك بلية فاصبر لها صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
فصل قال صاحب المنازل: الصبر: حبس النفس على المكروه وعقل اللسان
عن الشكوى وهو من أصعب المنازل على العامة وأوحشها في طريق المحبة وأنكرها في طريق التوحيد
وإنما كان صعبا على العامة: لأن العامي مبتدىء في الطريق وما له دربة في السلوك ولا تهذيب المرتاض بقطع المنازل فإذا أصابته المحن أدركه الجزع وصعب عليه احتمال البلاء وعز عليه وجدان الصبر لأنه ليس من أهل الرياضة فيكون مستوطنا للصبر ولا من أهل المحبة فيلتذ بالبلاء في رضى محبوبه
وأما كونه وحشة في طريق المحبة: فلأنها تقتضي التذاذ المحب بامتحان محبوبه له والصبر يقتضي كراهيته لذلك وحبس نفسه عليه كرها فهو وحشة في طريق المحبة وفي الوحشة نكتة لطيفة لأن الالتذاذ بالمحنة في المحبة هو من موجبات
أنس القلب بالمحبوب فإذا أحس بالألم بحيث يحتاج إلى الصبر انتقل من الأنس إلى الوحشية ولولا الوحشة لما أحس بالألم المستدعي للصبر وإنما كان أنكرها في طريق التوحيد: لأن فيه قوة الدعوى لأن الصابر يدعي بحاله قوة الثبات وذلك ادعاء منه لنفسه قوة عظيمة وهذا مصادمة لتجريد التوحيد إذ ليس لأحد قوة ألبتة بل لله القوة جميعا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فهذا سبب كون الصبر منكرا في طريق التوحيد بل من أنكر المنكر كما قال لأن التوحيد يرد الأشياء إلى الله والصبر يرد الأشياء إلى النفس وإثبات النفس في التوحيد منكر هذا حاصل كلامه محررا مقررا وهو من منكر كلامه بل الصبر من آكد المنازل في طريق المحبة وألزمها للمحبين وهم أحوج إلى منزلته من كل منزلة وهو من أعرف المنازل في طريق التوحيد وأبينها وحاجة المحب إليه ضرورية فإن قيل: كيف تكون حاجة المحب إليه ضرورية مع منافاته لكمال المحبة فإنه لا يكون إلا مع منازعات النفس لمراد المحبوب
قيل: هذه هي النكتة التي لأجلها كان من آكد المنازل في طريق المحبة وأعلقها بها وبه يعلم صحيح المحبة من معلولها وصادقها من كاذبها فإن بقوة الصبر على المكاره في مراد المحبوب يعلم صحة محبته ومن ههنا كانت محبة أكثر الناس كاذبة لأنهم كلهم ادعوا محبة الله تعالى فحين امتحنهم بالمكاره انخلعوا عن حقيقة المحبة ولم يثبت معه إلا الصابرون فلولا تحمل المشاق وتجشم المكاره بالصبر: لما ثبتت صحة محبتهم وقد تبين بذلك أن أعظمهم محبة أشدهم صبرا ولهذا وصف الله تعالى بالصبر خاصة أوليائه وأحبابه فقال عن حبيبه أيوب:
{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ ص: 44 ] ثم أثنى عليه فقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ ص: 44 ] وأمر أحب الخلق إليه بالصبر لحكمه وأخبر أن صبره به وأثنى على الصابرين أحسن الثناء وضمن لهم أعظم الجزاء وجعل أجر غيرهم محسوبا وأجرهم بغير حساب وقرن الصبر بمقامات الإسلام والإيمان والإحسان كما تقدم فجعله قرين اليقين والتوكل والإيمان والأعمال والتقوى وأخبر أن آياته إنما ينتفع بها أولو الصبر وأخبر أن الصبر خير لأهله وأن الملائكة تسلم عليهم في الجنة بصبرهم كما تقدم ذلك
وليس في استكراه النفوس لألم ما تصبر عليه وإحساسها به ما يقدح في محبتها ولا توحيدها فإن إحساسها بالألم ونفرتها منه أمر طبعي لها كاقتضائها للغذاء من الطعام والشراب وتألمها بفقده فلوازم النفس لا سبيل إلى إعدامها أو تعطيلها بالكلية وإلا لم تكن نفسا إنسانية ولارتفعت المحنة وكانت عالما آخر
و الصبر و المحبة لا يتناقضان بل يتواخيان ويتصاحبان والمحب صبور بل علة الصبر فى الحقيقة: المناقضة للمحبة المزاحمة للتوحيد أن يكون الباعث عليه غير إرادة رضى المحبوب بل إرادة غيره أو مزاحمته بإرادة غيره أو المراد منه لا مراده هذه هي وحشة الصبر ونكارته وأما من رأى صبره بالله وصبره لله وصبر مع الله مشاهدا أن صبره به تعالى لا بنفسه فهذا لا تلحق محبته وحشة ولا توحيده نكارة ثم لو استقام له هذا لكان في نوع واحد من أنواع الصبر وهو الصبر على المكاره فأما الصبر على الطاعات وهو حبس النفس عليها وعن المخالفات وهو منع النفس منها طوعا واختيارا والتذاذا فأي وحشة في هذا وأي نكارة فيه فإن قيل: إذا كان يفعل ذلك طوعا ومحبة ورضى وإيثارا: لم يكن الحامل
له على ذلك الصبر فيكون صبره في هذا الحال ملزوم الوحشة والنكارة لمنافاتها لحال المحب قيل: لا منافاة في ذلك بوجه فإن صبره حينئذ قد اندرج في رضاه وانطوى فيه وصار الحكم للرضى لا أن الصبر عدم بل لقوة وارد الرضى والحب وإيثار مراد المحبوب صار المشهد والمنزل للرضى بحكم الحال والصبر جزء منه ومنطو فيه ونحن لا ننكر هذا القدر فإن كان هو المراد فحبذا الوفاق وليس المقصود القيل والقال ومنازعات الجدال وإن كان غيره: فقد عرف ما فيه والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الصبر عن المعصية
بمطالعة الوعيد: إبقاء على الإيمان وحذرا من الحرام وأحسن منها: الصبر عن المعصية حياء ذكر للصبر عن المعصية سببين وفائدتين
أما السببان: فالخوف من لحوق الوعيد المترتب عليها والثاني: الحياء من الرب تبارك وتعالى أن يستعان على معاصيه بنعمه وأن يبارز بالعظائم وأما الفائدتان: فالابقاء على الإيمان والحذر من الحرام فأما مطالعة الوعيد والخوف منه: فيبعث عليه قوة الإيمان بالخبر والتصديق بمضمونه وأما الحياء: فيبعث عليه قوة المعرفة ومشاهدة معاني الأسماء والصفات وأحسن من ذلك: أن يكون الباعث عليه وازع الحب فيترك معصيته محبة له كحال الصهيبيين وأما الفائدتان: فالإبقاء على الإيمان: يبعث على ترك المعصية لأنها لا بد أن
تنقصه أو تذهب به أو تذهب رونقه وبهجته أو تطفىء نوره أو تضعف قوته أو تنقص ثمرته هذا أمر ضروري بين المعصية وبين الإيمان يعلم بالوجود والخبر والعقل كما صح عنه: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع إليه الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن فإياكم إياكم والتوبة معروضة بعد وأما الحذر عن الحرام: فهو الصبر عن كثير من المباح حذرا من أن يسوقه إلى الحرام ولما كان الحياء من شيم الأشراف وأهل الكرم والنفوس الزكية: كان صاحبه أحسن حالا من أهل الخوف ولأن في الحياء من الله ما يدل على مراقبته وحضور القلب معه ولأن فيه من تعظيمه وإجلاله ما ليس في وازع الخوف
فمن وازعه الخوف: قلبه حاضر مع العقوبة ومن وازعه الحياء: قلبه حاضر مع الله والخائف مراع جانب نفسه وحمايتها والمستحي مراع جانب ربه وملاحظ عظمته وكلا المقامين من مقامات أهل الإيمان غير أن الحياء أقرب إلى مقام الإحسان وألصق به إذ أنزل نفسه منزلة من كأنه يرى الله فنبعت ينابيع الحياء من عين قلبه وتفجرت عيونها قال: الدرجة الثانية: الصبر على الطاعة بالمحافظة عليها دواما وبرعايتها إخلاصا وبتحسينها علما هذا يدل على أن عنده: أن فعل الطاعة آكد من ترك المعصية فيكون الصبر عليها فوق الصبر عن ترك المعصية في الدرجة وهذا هو الصواب كما تقدم فإن ترك المعصية إنما كان لتكميل الطاعة
والنهي مقصود للأمر فالمنهي عنه لما كان يضعف المأموز به وينقصه: نهي عنه حماية وصيانة لجانب الأمر فجانب الأمر أقوى وآكد وهو بمنزلة الصحة والحياة والنهي بمنزلة الحمية التي تراد لحفظ الصحة وأسباب الحياة وذكر الشيخ: أن الصبر في هذه الدرجة بثلاثة أشياء: دوام الطاعة والإخلاص فيها ووقوعها في مقتضى العلم وهو تحسينها علما فإن الطاعة تتخلف من فوات واحد من هذه الثلاثة فإن العبد إن لم يحافظ عليها دواما عطلها وإن حافظ عليها دواما عرض لها آفتان:
إحداهما: ترك الإخلاص فيها بأن يكون الباعث عليها غير وجه الله وإرادته والتقرب إليه فحفظها من هذه الآفة: برعاية الإخلاص
الثانية: ألا تكون مطابقة للعلم بحيث لا تكون على اتباع السنة فحفظها من هذه الآفة: بتجريد المتابعة كما أن حفظها من تلك الآفة بتجريد القصد والإرادة فلذلك قال: بالمحافظة عليها دواما ورعايتها إخلاصا وتحسينها علما
فصل قال: الدرجة الثالثة: الصبر في البلاء بملاحظة حسن الجزاء
وانتظار روح الفرج وتهوين البلية بعد أيادي المنن وبذكر سوالف النعم هذه ثلاثة أشياء تبعث المتلبس بها على الصبر في البلاء إحداها: ملاحظة حسن الجزاء وعلى حسب ملاحظته والوثوق به ومطالعته يخف حمل البلاء لشهود العوض وهذا كما يخف على كل متحمل مشقة عظيمة حملها لما يلاحظه من لذة عاقبتها وظفره بها ولولا ذلك لتعطلت مصالح الدنيا والآخرة وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة فالنفس موكلة بحب العاجل وإنما خاصة العقل: تلمح العواقب ومطالعة الغايات وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وأن من رافق الراحة
فارق الراحة وحصل على المشقة وقت الراحة في دار الراحة فإن قدر التعب تكون الراحة
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكريم الكرائم
ويكبر في عين الصغير صغيرها وتصغر في عين العظيم العظائم
والقصد: أن ملاحظة حسن العاقبة تعين على الصبر فيما تتحمله باختيارك وغير اختيارك والثاني: انتظار روح الفرج يعني راحته ونسيمه ولذته فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفف حمل المشقة ولا سيما عند قوة الرجاء أو القطع بالفرج فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته: ما هو من خفي الألطاف وما هو فرج معجل وبه وبغيره يفهم معنى اسمه اللطيف والثالث: تهوين البلية بأمرين أحدهما: أن يعد نعم الله عليه وأياديه عنده فإذا عجز عن عدها وأيس من حصرها هان عليه ما هو فيه من البلاء ورآه بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه كقطرة من بحر الثاني: تذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه فهذا يتعلق بالماضي وتعداد أيادي المنن: يتعلق بالحال وملاحظة حسن الجزاء وانتظار روح الفرج: يتعلق بالمستقبل وأحدهما في الدنيا والثاني يوم الجزاء
ويحكى عن امرأة من العابدات أنها عثرت فانقطعت إصبعها فضحكت فقال لها بعض من معها: أتضحكين وقد انقطعت إصبعك فقالت: أخاطبك على قدر عقلك حلاوة أجرها أنستني مرارة ذكرها إشارة إلى أن عقله لا يحتمل ما فوق هذا المقام من ملاحظة المبتلي ومشاهدة حسن اختياره لها في ذلك البلاء
وتلذذها بالشكر له والرضى عنه ومقابلة ما جاء من قبله بالحمد والشكر كما قيل:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة فقد سرني أني خطرت ببالكا
فصل قال: وأضعف الصبر: الصبر لله وهو صبر العامة وفوقه:
الصبر بالله وهو صبر المريدين وفوقه: الصبر على الله وهو صبر السالكين معنى كلامه: أن صبر العامة لله أي رجاء ثوابه وخوف عقابه وصبر المريدين: بالله أي بقوة الله ومعونته فهم لا يرون لأنفسهم صبرا ولا قوة لهم عليه بل حالهم التحقق ب لا حول ولا قوة إلا بالله علما ومعرفة وحالا
وفوقهما: الصبر على الله أي على أحكامه إذ صاحبه يشهد المتصرف فيه فهو يصبر على أحكامه الجارية عليه جالبة عليه ما جلبت من محبوب ومكروه فهذه درجة صبر السالكين وهؤلاء الثلاثة عنده من العوام إذ هو في مقام الصبر وقد ذكر: أنه للعامة وأنه من أضعف منازلهم هذا تقرير كلامه
والصواب: أن الصبر لله فوق الصبر بالله وأعلى درجة منه وأجل فإن الصبر لله متعلق بإلهيته والصبر به: متعلق بربوبيته وما تعلق بإلهيته أكمل وأعلى مما تعلق بربوبيته ولأن الصبر له: عبادة والصبر به استعانة والعبادة غاية والاستعانة وسيلة والغاية مرادة لنفسها والوسيلة مرادة لغيرها ولأن الصبر به مشترك بين المؤمن والكافر والبر والفاجر فكل من شهد الحقيقة الكونية صبر به وأما الصبر له: فمنزلة الرسل والأنبياء والصديقين وأصحاب مشهد إياك نعبد وإياك نستعين
ولأن الصبر له: صبر فيما هو حق له محبوب له مرضى له والصبر به: قد يكون في ذلك وقد يكون فيما هو مسخوط له وقد يكون في مكروه أو مباح فأين هذا من هذا وأما تسمية الصبر على أحكامه صبرا عليه فلا مشاحة في العبارة بعد معرفة المعنى فهذا هو الصبر على أقداره وقد جعله الشيخ في الدرجة الثالثة وقد عرفت بما تقدم: أن الصبر على طاعته والصبر عن معصيته: أكمل من الصبر على أقداره كما ذكرنا في صبر يوسف عليه السلام فإن الصبر فيها صبر اختيار وإيثار ومحبة والصبر على أحكامه الكونية: صبر ضرورة وبينهما من البون ما قد عرفت وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما نالهم في الله باختيارهم وفعلهم ومقاومتهم قومهم: أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسببا عن فعله وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح وصبر أبيه إبراهيم عليهما السلام على تنفيذ أمر الله أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف فعلمت بهذا أن الصبر لله أكمل من الصبر بالله والصبر على طاعته والصبر عن معصيته أكمل من الصبر على قضائه وقدره والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله فإن قلت: الصبر بالله أقوى من الصبر لله فإن ما كان بالله كان بحوله وقوته وما كان به لم يقاومه شيء ولم يقم له شيء وهو صبر أرباب الأحوال والتأثير والصبر لله صبر أهل العبادة والزهد ولهذا هم مع إخلاصهم وزهدهم وصبرهم لله أضعف من الصابرين به فلهذا قال: وأضعف الصبر: الصبر لله قيل: المراتب أربعة
إحداها: مرتبة الكمال وهي مرتبة أولي العزائم وهي الصبر لله وبالله
فيكون في صبره مبتغيا وجه الله صابرا به متبرئا من حوله وقوته فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها
الثانية: أن لا يكون فيه لا هذا ولا هذا فهو أخس المراتب وأردأ الخلق وهو جدير بكل خذلان وبكل حرمان
الثالثة: مرتبة من فيه صبر بالله وهو مستعين متوكل على حوله وقوته متبرىء من حوله هو وقوته ولكن صبره ليس لله إذ ليس صبره فيما هو مراد الله الديني منه فهذا ينال مطلوبه ويظفر به ولكن لا عاقبة له وربما كانت عاقبته شر العواقب وفي هذا المقام خفراء الكفار وأرباب الأحوال الشيطانية فإن صبرهم بالله لا لله ولا في الله ولهم من الكشف والتأثير بحسب قوة أحوالهم وهم من جنس الملوك الظلمة فإن الحال كالملك يعطاه البر والفاجر والمؤمن والكافر
الرابع: من فيه صبر لله لكنه ضعيف النصيب من الصبر به والتوكل عليه والثقة به والاعتماد عليه فهذا له عاقبة حميدة ولكنه ضعيف عاجز مخذول في كثير من مطالبه لضعف نصيبه من إياك نعبد وإياك نستعين فنصيبه من الله: أقوى من نصيبه بالله فهذا حال المؤمن الضعيف وصابر بالله لا لله: حال الفاجر القوي وصابر لله وبالله: حال المؤمن القوي والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف
فصابر لله وبالله عزيز حميد ومن ليس لله ولا بالله مذموم مخذول ومن هو بالله لا لله قادر مذموم ومن هو لله لا بالله عاجز محمود
فبهذا التفصيل يزول الاشتباه في هذا الباب ويتبين فيه الخطأ من الصواب والله سبحانه وتعالى أعلم
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصبر
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعا وهو واجب بإجماع الأمة وهو نصف الإيمان فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر
وهو مذكور في القرآن على ستة عشر نوعا
الأول: الأمر به نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [ البقره: 153 ] وقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [ البقره: 45 ] وقوله: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [ آل عمران: 20 ] وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [ النحل: 127 ]
الثاني: النهي عن ضده كقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [ الأحقاف: 35 ] وقوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [ الأنفال: 15 ] فإن تولية الأدبار: ترك للصبر والمصابرة وقوله: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} 0 [ محمد: 33 ] فإن إبطالها ترك الصبر على إتمامها وقوله: فلا تهنوا ولا تحزنوا [ آل عمران: 139 ] فإن الوهن من عدم الصبر
الثالث: الثناء على أهله كقوله تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ} الآية [ آل عمران: 17 ] وقوله: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [ البقره: 177 ] وهو كثير في القرآن
الرابع: إيجابه سبحانه محبته لهم كقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [ آل عمران: 146 ]
الخامس: إيجاب معيته لهم وهي معية خاصة تتضمن حفظهم ونصرهم وتأييدهم ليست معية عامة وهي معية العلم والإحاطة كقوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ الأنفال: 46 ] وقوله: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [ البقره: 249 الأنفال: 69 ]
السادس: إخباره بأن الصبر خير لأصحابه كقوله: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [ النحل: 126 ] وقوله: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [ النساء: 25 ]
السابع: إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم كقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ النحل: 96 ]
الثامن: إيجابه سبحانه الجزاء لهم بغير حساب كقوله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ الزمر: 10 ]
التاسع: إطلاق البشرى لأهل الصبر كقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [ البقره: 155 ]
العاشر: ضمان النصر والمدد لهم كقوله تعالى: بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} [ آل عمران: 125 ] ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: واعلم أن النصر مع الصبر
الحادى عشر: الإخبار منه تعالى بأن أهل الصبر هم أهل العزائم كقوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [ الشورى: 43 ]
الثاني عشر: الإخبار أنه ما يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة إلا أهل الصبر كقوله تعالى: {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [ القصص: 80 ] وقوله: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [ فصلت: 35 ]
الثالث عشر: الإخبار أنه إنما ينتفع بالآيات والعبر أهل الصبر كقوله تعالى لموسى: {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [ إبراهيم: 5 ] وقوله في أهل سبأ: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [ سبأ: 19 ] وقوله في سورة الشورى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [ الشورى: 3233 ]
الرابع عشر: الإخبار بأن الفوز المطلوب المحبوب والنجاة من المكروه المرهوب ودخول الجنة إنما نالوه بالصبر كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [ الرعد: 2324 ]
الخامس عشر: أنه يورث صاحبه درجة الإمامة سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ثم تلا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [ السجده: 24 ]
السادس عشر: اقترانه بمقامات الإسلام والإيمان كما قرنه الله سبحانه
باليقين وبالإيمان وبالتقوى والتوكل وبالشكر والعمل الصالح والرحمة ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا إيمان لمن لا صبر له كما أنه لا جسد لمن لا رأس له وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خير عيش أدركناه بالصبر وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: أنه ضياء وقال: من يتصبر يصبره الله وفي الحديث الصحيح: عجبا لأمر المؤمن ! إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له
وقال للمرأة السوداء التي كانت تصرع فسألته: أن يدعو لها: إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت دعوت الله أن يعافيك فقالت: إني أتكشف فادع الله: أن لا أتكشف فدعا لها وأمر الأنصار رضي الله تعالى عنهم بأن يصبروا على الأثرة التي يلقونها بعده حتى يلقوه على الحوض وأمر عند ملاقاة العدو بالصبر وأمر بالصبر عند المصيبة وأخبر: أنه إنما يكون عند الصدمة الأولى
وأمر المصاب بأنفع الأمور له وهو الصبر والاحتساب فإن ذلك يخفف مصيبته ويوفر أجره والجزع والتسخط والتشكى يزيد في المصيبة ويذهب الأجر وأخبر أن الصبر خير كله فقال: ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع: من الصبر
فصل و الصبر في اللغة: الحبس والكف ومنه: قتل فلان صبرا
إذا أمسك وحبس ومنه قوله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [ الكهف: 28 ] أي احبس نفسك معهم
فالصبر: حبس النفس عن الجزع والتسخط وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عن التشويش وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله وصبر عن معصية الله وصبر على امتحان الله فالأولان: صبر على ما يتعلق بالكسب والثالث: صبر على ما لا كسب للعبد فيه
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها: أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره لا كسب له فيها ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر وأما صبره عن المعصية: فصبر اختيار ورضى ومحاربة للنفس ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة فإنه كان شابا وداعية الشباب إليها قوية وعزبا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته وغريبا والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله ومملوكا والمملوك أيضا ليس وازعه كوازع الحر والمرأة جميلة وذات منصب وهي سيدته وقد غاب الرقيب وهي الداعية له إلى نفسها والحريصة على ذلك أشد الحرص ومع ذلك توعدته إن لم يفعل: بالسجن والصغار ومع هذه الدواعي كلها: صبر اختيارا وإيثارا لما عند الله وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه
وكان يقول: الصبر على أداء الطاعات: أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل فإن مصلحة فعل الطاعة: أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية ومفسدة عدم الطاعة: أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية وله رحمه الله فى ذلك مصنف قرره فيه بنحو من عشرين وجهاليس هذا موضع ذكرها والمقصود: الكلام على الصبر وحقيقته ودرجاته ومرتبته والله الموفق
فصل وهو على ثلاثة أنواع: صبر بالله وصبر لله وصبر مع الله
فالأول: أول الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبر وأن صبر العبد بربه لا بنفسه كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [ النحل: 127 ] يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر والثاني: الصبر لله وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبة الله وإرادة وجهه والتقرب إليه لا لإظهار قوة النفس والاستحماد إلى الخلق وغير ذلك من الأعراض والثالث: الصبر مع الله وهو دوران العبد مع مراد الله الديني منه ومع أحكامه الدينية صابرا نفسه معها سائرا بسيرها مقيما بإقامتها يتوجه معها أين توجهت ركائبها وينزل معها أين استقلت مضاربها فهذا معنى كونه صابرا مع الله أي قد جعل نفسه وقفا على أوامره ومحابه وهو أشد أنواع الصبر وأصعبها وهو صبر الصديقين قال الجنيد: المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن وهجران الخلق في جنب الله شديد والمسير من النفس إلى الله صعب شديد والصبر مع الله أشد وسئل عن الصبر فقال: تجرع المرارة من غير تعبس
قال ذو النون المصري الصبر التباعد من المخالفات والسكون عند تجرع غصص البلية وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة
وقيل: الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب وقيل: هو الفناء في البلوى بلا ظهور ولا شكوى وقيل: تعويد النفس الهجوم على المكاره وقيل: المقام مع البلاء بحسن الصحبة كالمقام مع العافية وقال عمرو بن عثمان: هو الثبات مع الله وتلقي بلائه بالرحب والدعة وقال الخواص: هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة وقال يحيى بن معاذ: صبر المحبين أشد من صبر الزاهدين واعجبا ! كيف يصبرون وأنشد:
الصبر يجمل في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يجمل
وقيل: الصبر هو الاستعانة بالله وقيل: هو ترك الشكوى وقيل:
الصبر مثل اسمه مر مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
وقيل: الصبر أن ترضى بتلف نفسك في رضى من تحبه كما قيل:
سأصبر كي ترضى وأتلف حسرة وحسبي أن ترضي ويتلفني صبري
وقيل: مراتب الصابرين خمسة: صابر ومصطبر ومتصبر وصبور وصبار فالصابر: أعمها والمصطبر: المكتسب الصبر المليء به والمتصبر: المتكلف حامل نفسه عليه والصبور: العظيم الصبر الذي صبره أشد من صبر غيره والصبار: الكثير الصبر فهذا فى القدر والكم والذي قبله في الوصف والكيف وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصبر مطية لا تكبو
وقف رجل على الشبلي فقال: أي صبر أشد على الصابرين فقال: الصبر في الله قال السائل: لا فقال: الصبر لله فقال: لا فقال: الصبر مع الله فقال: لا قال الشبلي: فإيش هو قال: الصبر عن الله فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف وقال الجريري: الصبر أن لا يفرق بين حال النعمة وحال المحبة مع سكون الخاطر فيهما والتصبر: هو السكون مع البلاء مع وجدان أثقال أثقال المحنة قال أبو علي الدقاق: فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته فإن الله مع الصابرين وقيل في قوله تعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [ آل عمران: 200 ] إنه انتقال من الأدنى إلى الأعلى ف الصبر دون المصابرة و المصابرة دون المرابطة و المرابطة مفاعلة من الربط وهو الشد وسمى المرابط مرابطا: لأن المرابطين يربطون خيولهم ينتظرون الفزع ثم قيل لكل منتظر قد ربط نفسه لطاعة ينتظرها: مرابط ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط وقال رباط يوم فى سبيل الله: خير من الدنيا وما فيها وقيل: اصبروا بنفوسكم على طاعة الله وصابروا بقلوبكم على البلوي في الله ورابطوا بأسراركم على الشوق إلى الله وقيل: اصبروا في الله وصابروا بالله ورابطوا مع الله وقيل: اصبروا على النعماء وصابروا على البأساء والضراء ورابطوا في دار الأعداء واتقوا إله الأرض والسماء لعلكم تفلحون في دار البقاء فالصبر مع نفسك و المصابرة بينك وبين عدوك و المرابطة الثبات وإعداد العدة وكما أن الرباط لزوم الثغر لئلا يهجم منه العدو فكذلك
الرباط أيضا لزوم ثغر القلب لئلا يهجم عليه الشيطان فيملكه أو يخربه أو يشعثه وقيل: تجرع الصبر فإن قتلك قتلك شهيدا وإن أحياك أحياك عزيزا وقيل: الصبر لله غناء وبالله تعالى بقاء وفي الله بلاء ومع الله وفاء وعن الله جفاء والصبر على الطلب عنوان الظفر وفي المحن عنوان الفرج
وقيل: حال العبد مع الله رباطه وما دون الله أعداؤه وفي كتاب الأدب للبخارى سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: الصبر والسماحة ذكره عن موسى بن اسماعيل قال: حدثنا سويد قال: حدثنا عبدالله بن عبيد بن عمير عن أبيه عن جده فذكره وهذا من أجمع الكلام وأعظمه برهانا وأوعبه لمقامات الإيمان من أولها إلى آخرها فإن النفس يراد منها شيئان: بذل ما أمرت به وإعطاؤه فالحامل عليه: السماحة وترك ما نهيت عنه والبعد منه فالحامل عليه: الصبر
وقد أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه بالصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل فسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه و الصفح الجميل هو الذى لا عتاب معه و الهجر الجميل هو الذي لا أذى معه وفي أثر اسرائيلي أوحى الله إلى نبي من أنبيائه: أنزلت بعبدى بلائي فدعاني فما طلته بالإجابة فشكاني فقلت: عبدي كيف أرحمك من شيء به أرحمك وقال ابن عيينة في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [ السجدة: 24 ] قال: أخذوا برأس الأمر فجعلهم رؤساء وقيل: صبر العابدين أحسنه: أن يكون محفوظا وصبر المحبين أحسنه: أن يكون مرفوضا كما قيل:
تبين يوم البين أن اعتزامه على الصبر من إحدى الظنون الكواذب
والشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر فإن يعقوب عليه السلام وعد بالصبر الجميل والنبي إذا وعد لا يخلف ثم قال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [ يوسف: 86 ] وكذلك أيوب أخبر الله عنه: أنه وجده صابرا مع قوله: {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [ الأنبياء: 83 ]
وإنما ينافي الصبر شكوى الله لا الشكوى إلى الله كما رأى بعضهم رجلا يشكو إلى آخر فاقة وضرورة فقال: يا هذا تشكو من يرحمك إلى من لا يرحمك ثم أنشد :
وإذا عرتك بلية فاصبر لها صبر الكريم فإنه بك أعلم
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
فصل قال صاحب المنازل: الصبر: حبس النفس على المكروه وعقل اللسان
عن الشكوى وهو من أصعب المنازل على العامة وأوحشها في طريق المحبة وأنكرها في طريق التوحيد
وإنما كان صعبا على العامة: لأن العامي مبتدىء في الطريق وما له دربة في السلوك ولا تهذيب المرتاض بقطع المنازل فإذا أصابته المحن أدركه الجزع وصعب عليه احتمال البلاء وعز عليه وجدان الصبر لأنه ليس من أهل الرياضة فيكون مستوطنا للصبر ولا من أهل المحبة فيلتذ بالبلاء في رضى محبوبه
وأما كونه وحشة في طريق المحبة: فلأنها تقتضي التذاذ المحب بامتحان محبوبه له والصبر يقتضي كراهيته لذلك وحبس نفسه عليه كرها فهو وحشة في طريق المحبة وفي الوحشة نكتة لطيفة لأن الالتذاذ بالمحنة في المحبة هو من موجبات
أنس القلب بالمحبوب فإذا أحس بالألم بحيث يحتاج إلى الصبر انتقل من الأنس إلى الوحشية ولولا الوحشة لما أحس بالألم المستدعي للصبر وإنما كان أنكرها في طريق التوحيد: لأن فيه قوة الدعوى لأن الصابر يدعي بحاله قوة الثبات وذلك ادعاء منه لنفسه قوة عظيمة وهذا مصادمة لتجريد التوحيد إذ ليس لأحد قوة ألبتة بل لله القوة جميعا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
فهذا سبب كون الصبر منكرا في طريق التوحيد بل من أنكر المنكر كما قال لأن التوحيد يرد الأشياء إلى الله والصبر يرد الأشياء إلى النفس وإثبات النفس في التوحيد منكر هذا حاصل كلامه محررا مقررا وهو من منكر كلامه بل الصبر من آكد المنازل في طريق المحبة وألزمها للمحبين وهم أحوج إلى منزلته من كل منزلة وهو من أعرف المنازل في طريق التوحيد وأبينها وحاجة المحب إليه ضرورية فإن قيل: كيف تكون حاجة المحب إليه ضرورية مع منافاته لكمال المحبة فإنه لا يكون إلا مع منازعات النفس لمراد المحبوب
قيل: هذه هي النكتة التي لأجلها كان من آكد المنازل في طريق المحبة وأعلقها بها وبه يعلم صحيح المحبة من معلولها وصادقها من كاذبها فإن بقوة الصبر على المكاره في مراد المحبوب يعلم صحة محبته ومن ههنا كانت محبة أكثر الناس كاذبة لأنهم كلهم ادعوا محبة الله تعالى فحين امتحنهم بالمكاره انخلعوا عن حقيقة المحبة ولم يثبت معه إلا الصابرون فلولا تحمل المشاق وتجشم المكاره بالصبر: لما ثبتت صحة محبتهم وقد تبين بذلك أن أعظمهم محبة أشدهم صبرا ولهذا وصف الله تعالى بالصبر خاصة أوليائه وأحبابه فقال عن حبيبه أيوب:
{إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ ص: 44 ] ثم أثنى عليه فقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ ص: 44 ] وأمر أحب الخلق إليه بالصبر لحكمه وأخبر أن صبره به وأثنى على الصابرين أحسن الثناء وضمن لهم أعظم الجزاء وجعل أجر غيرهم محسوبا وأجرهم بغير حساب وقرن الصبر بمقامات الإسلام والإيمان والإحسان كما تقدم فجعله قرين اليقين والتوكل والإيمان والأعمال والتقوى وأخبر أن آياته إنما ينتفع بها أولو الصبر وأخبر أن الصبر خير لأهله وأن الملائكة تسلم عليهم في الجنة بصبرهم كما تقدم ذلك
وليس في استكراه النفوس لألم ما تصبر عليه وإحساسها به ما يقدح في محبتها ولا توحيدها فإن إحساسها بالألم ونفرتها منه أمر طبعي لها كاقتضائها للغذاء من الطعام والشراب وتألمها بفقده فلوازم النفس لا سبيل إلى إعدامها أو تعطيلها بالكلية وإلا لم تكن نفسا إنسانية ولارتفعت المحنة وكانت عالما آخر
و الصبر و المحبة لا يتناقضان بل يتواخيان ويتصاحبان والمحب صبور بل علة الصبر فى الحقيقة: المناقضة للمحبة المزاحمة للتوحيد أن يكون الباعث عليه غير إرادة رضى المحبوب بل إرادة غيره أو مزاحمته بإرادة غيره أو المراد منه لا مراده هذه هي وحشة الصبر ونكارته وأما من رأى صبره بالله وصبره لله وصبر مع الله مشاهدا أن صبره به تعالى لا بنفسه فهذا لا تلحق محبته وحشة ولا توحيده نكارة ثم لو استقام له هذا لكان في نوع واحد من أنواع الصبر وهو الصبر على المكاره فأما الصبر على الطاعات وهو حبس النفس عليها وعن المخالفات وهو منع النفس منها طوعا واختيارا والتذاذا فأي وحشة في هذا وأي نكارة فيه فإن قيل: إذا كان يفعل ذلك طوعا ومحبة ورضى وإيثارا: لم يكن الحامل
له على ذلك الصبر فيكون صبره في هذا الحال ملزوم الوحشة والنكارة لمنافاتها لحال المحب قيل: لا منافاة في ذلك بوجه فإن صبره حينئذ قد اندرج في رضاه وانطوى فيه وصار الحكم للرضى لا أن الصبر عدم بل لقوة وارد الرضى والحب وإيثار مراد المحبوب صار المشهد والمنزل للرضى بحكم الحال والصبر جزء منه ومنطو فيه ونحن لا ننكر هذا القدر فإن كان هو المراد فحبذا الوفاق وليس المقصود القيل والقال ومنازعات الجدال وإن كان غيره: فقد عرف ما فيه والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الصبر عن المعصية
بمطالعة الوعيد: إبقاء على الإيمان وحذرا من الحرام وأحسن منها: الصبر عن المعصية حياء ذكر للصبر عن المعصية سببين وفائدتين
أما السببان: فالخوف من لحوق الوعيد المترتب عليها والثاني: الحياء من الرب تبارك وتعالى أن يستعان على معاصيه بنعمه وأن يبارز بالعظائم وأما الفائدتان: فالابقاء على الإيمان والحذر من الحرام فأما مطالعة الوعيد والخوف منه: فيبعث عليه قوة الإيمان بالخبر والتصديق بمضمونه وأما الحياء: فيبعث عليه قوة المعرفة ومشاهدة معاني الأسماء والصفات وأحسن من ذلك: أن يكون الباعث عليه وازع الحب فيترك معصيته محبة له كحال الصهيبيين وأما الفائدتان: فالإبقاء على الإيمان: يبعث على ترك المعصية لأنها لا بد أن
تنقصه أو تذهب به أو تذهب رونقه وبهجته أو تطفىء نوره أو تضعف قوته أو تنقص ثمرته هذا أمر ضروري بين المعصية وبين الإيمان يعلم بالوجود والخبر والعقل كما صح عنه: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع إليه الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن فإياكم إياكم والتوبة معروضة بعد وأما الحذر عن الحرام: فهو الصبر عن كثير من المباح حذرا من أن يسوقه إلى الحرام ولما كان الحياء من شيم الأشراف وأهل الكرم والنفوس الزكية: كان صاحبه أحسن حالا من أهل الخوف ولأن في الحياء من الله ما يدل على مراقبته وحضور القلب معه ولأن فيه من تعظيمه وإجلاله ما ليس في وازع الخوف
فمن وازعه الخوف: قلبه حاضر مع العقوبة ومن وازعه الحياء: قلبه حاضر مع الله والخائف مراع جانب نفسه وحمايتها والمستحي مراع جانب ربه وملاحظ عظمته وكلا المقامين من مقامات أهل الإيمان غير أن الحياء أقرب إلى مقام الإحسان وألصق به إذ أنزل نفسه منزلة من كأنه يرى الله فنبعت ينابيع الحياء من عين قلبه وتفجرت عيونها قال: الدرجة الثانية: الصبر على الطاعة بالمحافظة عليها دواما وبرعايتها إخلاصا وبتحسينها علما هذا يدل على أن عنده: أن فعل الطاعة آكد من ترك المعصية فيكون الصبر عليها فوق الصبر عن ترك المعصية في الدرجة وهذا هو الصواب كما تقدم فإن ترك المعصية إنما كان لتكميل الطاعة
والنهي مقصود للأمر فالمنهي عنه لما كان يضعف المأموز به وينقصه: نهي عنه حماية وصيانة لجانب الأمر فجانب الأمر أقوى وآكد وهو بمنزلة الصحة والحياة والنهي بمنزلة الحمية التي تراد لحفظ الصحة وأسباب الحياة وذكر الشيخ: أن الصبر في هذه الدرجة بثلاثة أشياء: دوام الطاعة والإخلاص فيها ووقوعها في مقتضى العلم وهو تحسينها علما فإن الطاعة تتخلف من فوات واحد من هذه الثلاثة فإن العبد إن لم يحافظ عليها دواما عطلها وإن حافظ عليها دواما عرض لها آفتان:
إحداهما: ترك الإخلاص فيها بأن يكون الباعث عليها غير وجه الله وإرادته والتقرب إليه فحفظها من هذه الآفة: برعاية الإخلاص
الثانية: ألا تكون مطابقة للعلم بحيث لا تكون على اتباع السنة فحفظها من هذه الآفة: بتجريد المتابعة كما أن حفظها من تلك الآفة بتجريد القصد والإرادة فلذلك قال: بالمحافظة عليها دواما ورعايتها إخلاصا وتحسينها علما
فصل قال: الدرجة الثالثة: الصبر في البلاء بملاحظة حسن الجزاء
وانتظار روح الفرج وتهوين البلية بعد أيادي المنن وبذكر سوالف النعم هذه ثلاثة أشياء تبعث المتلبس بها على الصبر في البلاء إحداها: ملاحظة حسن الجزاء وعلى حسب ملاحظته والوثوق به ومطالعته يخف حمل البلاء لشهود العوض وهذا كما يخف على كل متحمل مشقة عظيمة حملها لما يلاحظه من لذة عاقبتها وظفره بها ولولا ذلك لتعطلت مصالح الدنيا والآخرة وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة إلا لثمرة مؤجلة فالنفس موكلة بحب العاجل وإنما خاصة العقل: تلمح العواقب ومطالعة الغايات وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم وأن من رافق الراحة
فارق الراحة وحصل على المشقة وقت الراحة في دار الراحة فإن قدر التعب تكون الراحة
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكريم الكرائم
ويكبر في عين الصغير صغيرها وتصغر في عين العظيم العظائم
والقصد: أن ملاحظة حسن العاقبة تعين على الصبر فيما تتحمله باختيارك وغير اختيارك والثاني: انتظار روح الفرج يعني راحته ونسيمه ولذته فإن انتظاره ومطالعته وترقبه يخفف حمل المشقة ولا سيما عند قوة الرجاء أو القطع بالفرج فإنه يجد في حشو البلاء من روح الفرج ونسيمه وراحته: ما هو من خفي الألطاف وما هو فرج معجل وبه وبغيره يفهم معنى اسمه اللطيف والثالث: تهوين البلية بأمرين أحدهما: أن يعد نعم الله عليه وأياديه عنده فإذا عجز عن عدها وأيس من حصرها هان عليه ما هو فيه من البلاء ورآه بالنسبة إلى أيادي الله ونعمه كقطرة من بحر الثاني: تذكر سوالف النعم التي أنعم الله بها عليه فهذا يتعلق بالماضي وتعداد أيادي المنن: يتعلق بالحال وملاحظة حسن الجزاء وانتظار روح الفرج: يتعلق بالمستقبل وأحدهما في الدنيا والثاني يوم الجزاء
ويحكى عن امرأة من العابدات أنها عثرت فانقطعت إصبعها فضحكت فقال لها بعض من معها: أتضحكين وقد انقطعت إصبعك فقالت: أخاطبك على قدر عقلك حلاوة أجرها أنستني مرارة ذكرها إشارة إلى أن عقله لا يحتمل ما فوق هذا المقام من ملاحظة المبتلي ومشاهدة حسن اختياره لها في ذلك البلاء
وتلذذها بالشكر له والرضى عنه ومقابلة ما جاء من قبله بالحمد والشكر كما قيل:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة فقد سرني أني خطرت ببالكا
فصل قال: وأضعف الصبر: الصبر لله وهو صبر العامة وفوقه:
الصبر بالله وهو صبر المريدين وفوقه: الصبر على الله وهو صبر السالكين معنى كلامه: أن صبر العامة لله أي رجاء ثوابه وخوف عقابه وصبر المريدين: بالله أي بقوة الله ومعونته فهم لا يرون لأنفسهم صبرا ولا قوة لهم عليه بل حالهم التحقق ب لا حول ولا قوة إلا بالله علما ومعرفة وحالا
وفوقهما: الصبر على الله أي على أحكامه إذ صاحبه يشهد المتصرف فيه فهو يصبر على أحكامه الجارية عليه جالبة عليه ما جلبت من محبوب ومكروه فهذه درجة صبر السالكين وهؤلاء الثلاثة عنده من العوام إذ هو في مقام الصبر وقد ذكر: أنه للعامة وأنه من أضعف منازلهم هذا تقرير كلامه
والصواب: أن الصبر لله فوق الصبر بالله وأعلى درجة منه وأجل فإن الصبر لله متعلق بإلهيته والصبر به: متعلق بربوبيته وما تعلق بإلهيته أكمل وأعلى مما تعلق بربوبيته ولأن الصبر له: عبادة والصبر به استعانة والعبادة غاية والاستعانة وسيلة والغاية مرادة لنفسها والوسيلة مرادة لغيرها ولأن الصبر به مشترك بين المؤمن والكافر والبر والفاجر فكل من شهد الحقيقة الكونية صبر به وأما الصبر له: فمنزلة الرسل والأنبياء والصديقين وأصحاب مشهد إياك نعبد وإياك نستعين
ولأن الصبر له: صبر فيما هو حق له محبوب له مرضى له والصبر به: قد يكون في ذلك وقد يكون فيما هو مسخوط له وقد يكون في مكروه أو مباح فأين هذا من هذا وأما تسمية الصبر على أحكامه صبرا عليه فلا مشاحة في العبارة بعد معرفة المعنى فهذا هو الصبر على أقداره وقد جعله الشيخ في الدرجة الثالثة وقد عرفت بما تقدم: أن الصبر على طاعته والصبر عن معصيته: أكمل من الصبر على أقداره كما ذكرنا في صبر يوسف عليه السلام فإن الصبر فيها صبر اختيار وإيثار ومحبة والصبر على أحكامه الكونية: صبر ضرورة وبينهما من البون ما قد عرفت وكذلك كان صبر نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام على ما نالهم في الله باختيارهم وفعلهم ومقاومتهم قومهم: أكمل من صبر أيوب على ما ناله في الله من ابتلائه وامتحانه بما ليس مسببا عن فعله وكذلك كان صبر إسماعيل الذبيح وصبر أبيه إبراهيم عليهما السلام على تنفيذ أمر الله أكمل من صبر يعقوب على فقد يوسف فعلمت بهذا أن الصبر لله أكمل من الصبر بالله والصبر على طاعته والصبر عن معصيته أكمل من الصبر على قضائه وقدره والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله فإن قلت: الصبر بالله أقوى من الصبر لله فإن ما كان بالله كان بحوله وقوته وما كان به لم يقاومه شيء ولم يقم له شيء وهو صبر أرباب الأحوال والتأثير والصبر لله صبر أهل العبادة والزهد ولهذا هم مع إخلاصهم وزهدهم وصبرهم لله أضعف من الصابرين به فلهذا قال: وأضعف الصبر: الصبر لله قيل: المراتب أربعة
إحداها: مرتبة الكمال وهي مرتبة أولي العزائم وهي الصبر لله وبالله
فيكون في صبره مبتغيا وجه الله صابرا به متبرئا من حوله وقوته فهذا أقوى المراتب وأرفعها وأفضلها
الثانية: أن لا يكون فيه لا هذا ولا هذا فهو أخس المراتب وأردأ الخلق وهو جدير بكل خذلان وبكل حرمان
الثالثة: مرتبة من فيه صبر بالله وهو مستعين متوكل على حوله وقوته متبرىء من حوله هو وقوته ولكن صبره ليس لله إذ ليس صبره فيما هو مراد الله الديني منه فهذا ينال مطلوبه ويظفر به ولكن لا عاقبة له وربما كانت عاقبته شر العواقب وفي هذا المقام خفراء الكفار وأرباب الأحوال الشيطانية فإن صبرهم بالله لا لله ولا في الله ولهم من الكشف والتأثير بحسب قوة أحوالهم وهم من جنس الملوك الظلمة فإن الحال كالملك يعطاه البر والفاجر والمؤمن والكافر
الرابع: من فيه صبر لله لكنه ضعيف النصيب من الصبر به والتوكل عليه والثقة به والاعتماد عليه فهذا له عاقبة حميدة ولكنه ضعيف عاجز مخذول في كثير من مطالبه لضعف نصيبه من إياك نعبد وإياك نستعين فنصيبه من الله: أقوى من نصيبه بالله فهذا حال المؤمن الضعيف وصابر بالله لا لله: حال الفاجر القوي وصابر لله وبالله: حال المؤمن القوي والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف
فصابر لله وبالله عزيز حميد ومن ليس لله ولا بالله مذموم مخذول ومن هو بالله لا لله قادر مذموم ومن هو لله لا بالله عاجز محمود
فبهذا التفصيل يزول الاشتباه في هذا الباب ويتبين فيه الخطأ من الصواب والله سبحانه وتعالى أعلم
- !أسيرة الغربة!رائع فوق العادة
- عدد المساهمات : 847
تاريخ التسجيل : 26/04/2010
رد: منزلة (الصبر).
الأربعاء 03 أغسطس 2011, 9:06 pm
الصبر
هي صفة عباد الله المؤمنين الخلصين المتوكلين على الله
فاذا علمنا ان كل الامور بيد الله عز وجل نصبر ونحتسب
اللهم اكتبنا مع الحامدين الشاكرين الذاكرين الصابرين
اللهم آآآمين
جزاك الله خيرا اخي عز الدين
في ميزان حسناتك الطيبة ان شاء الله
!* أسيرة الغربــة *!
هي صفة عباد الله المؤمنين الخلصين المتوكلين على الله
فاذا علمنا ان كل الامور بيد الله عز وجل نصبر ونحتسب
اللهم اكتبنا مع الحامدين الشاكرين الذاكرين الصابرين
اللهم آآآمين
جزاك الله خيرا اخي عز الدين
في ميزان حسناتك الطيبة ان شاء الله
!* أسيرة الغربــة *!
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى